يمر الشاب في فترة مراهقته بتجربة حب وغزل، وغالباً ما تكون ابنة الجيران أقرب فتاة لتكون حبيبته، حيث لا يفصله عنها سوى حائط؛ فالمنازل في القرى كانت متلاصقة، وتشبه النسيج الواحد، وسطوحها متساوية، ولا يفصل بين بيت وآخر سوى جدار قصير يسميه بعضهم قديماً "جديّر" تصغيراً له، فإذا ما طلعت على أحد تلك الأسطح وشحت بالنظر من حولك فإنك تستطيع أن تستكشف جميع المنازل، وإن أرهفت سمعك فستلتقط أذناك سواليف الجيران وحكاياتهم ونقاشاتهم اليومية. وبما أن سطوح المنازل متلاصقة فقد كانت هي الطريقة المثلى للتواصل مع "المحبوبة" بنت الجيران، حيث يكون المكان آمناً من رؤية الأهل أو من سماع حديثهما، كان غزلاً عُذرياً لطيفاً وبريئاً لا تفسده النوايا السلبية إطلاقاً. وعندما يكون الولد صغيراً وقبل أن يبلغ الحلم فإنه يختلط مع ابنة الجيران ويلعب معها ويقضي أوقاتاً طويلة سواءً بحضرة الأهل أو لوحدهما، وقد يتطور الحال بالشاب من اللعب الى الإعجاب، ومن ثم الوقوع في الحُب والغرام، بل وربما الهيام، وبعد أن تكبر البنت وتحتجب عن الشاب تبقى المحبة ويبدأ الغزل العُذري اللطيف، فيعمد الشاب الى البقاء في البيت اذا جاءت ابنة الجيران الى أخته أو حضرت مع والدتها لزيارة والدته، فيسترق النظرات ويستمع الى أعذب الحديث، وفي أحايين كثيرة قد يطلع الشاب أخته ويعترف لها بحبه لابنة الجيران ويودعها سرّه، ويطلب منها أن توصل رسائل الغرام بينه وبينها، فتستمر المراسلات وتتبادل آهات العشق التي غالباً ما تتوج بالاجتماع في بيت الزوجية، ونادراً ما تنقطع تلك العلاقة بعد النضوج والافتراق، فتكون ذكريات طفولة وصبا جميلة لا يمكن أن تُمحي من الذاكرة. مواقف طريفة تعرّض لها عشاق الغزل في السطوح، وهي كثر بحكم نظام البناء المتلاصق لبيوت الطين التي كانت مثل شبكة واحدة، فالمنازل كأنها تشترك في سطح واحد، فالفاصل بين البيوت جدار قصير، والهدف منه فصل البيوت بعضها عن بعض، دلالة على أن الناس كانت قلوبهم صافية ونفوسهم متحابة، وبعيدين كل البعد عن ظن السوء فيما بينهم، لتمسكهم بدينهم وحرصهم على حقوق الجار الذي يحفظ عورة جاره، بل ويعدّهم من أسرته وأهله، وإن كان هناك غزل فهو غزل عُذري لطيف بريء، كما أنه بعيد كل البعد عن الخلوة والفعل المحرم. البيوت قديماً متلاصقة وأسطحها متجاورة..والغزل يحرّك تباريح القلب علقة ساخنة قصة طريفة كان بطلها بعيداً كل البعد عن الغزل ولا يعرف فنونه، بل ولم يجربه، لكن المصادفة قادته الى الوقوع ضحية لعلقة ساخنة لايزال يتذكرها بحرقة وألم، على الرغم من أنه شاخ وهرم، وتفاصيل ذلك أن هذا الشخص كان طالباً مُجتهداً وذات يوم دعا صديقين له ليستذكروا دروسهم، فقد كانوا في بداية المرحلة المتوسطة، فجلسوا في سطح بيت أهله يذاكرون الدروس، فطلب منه أحد صديقيه أثناء المذاكرة أن يحضر قليلا من الماء ليشرب، وأثناء نزوله لمحا ابنة الجيران وهي تصعد السطح لتحضر شيئاً ما فأرادا أن يسترقا نظرة خاطفة لها ويروحا عن نفسيهما من عناء المذاكرة، فلعلهما يحظيان بلحظات غزل ممتعة، وأثناء ذلك صعد والدها الى السطح فرأى أحدهما يطل برأسه وكان والدها من الناس المحافظين والغيورين فاستشاظ غيظاً، ونزل بسرعة "مزمجراً"، فنزلا مسرعين وخرجا من بيت صديقهما واطلقا ساقيهما للريح، ولما عاد صاحبهما الى السطح لم يجدهما وسمع الباب يطرق فنزل مسرعاً فإذا بالجار يمسك بتلاليه ويوسعه ضرباً مبرحاً، وهو لا يدري ما السبب، لكنه فهم أن هناك من كان قد نظر الى سطحه ونظر الى ابنته ولم يستطع أن يشرح له ملابسات الموضوع لانشغال جاره بضربه وركله، ولم يغادر الرجل إلاّ بعد أن شفي غليله، مطلقاً وعيده الشديد له إن كررها، فدخل إلى بيته يجر رجليه من ذلك الضرب المبرح، وبعد فترة رجع صديقاه يطرقان الباب ولما فتح لم يستطيعا الكلام من شدة الضحك فقد شاهداه وهو يتلقى تلك العلقة الساخنة، وبعد أن هدأ ضحكهما أخبرا صاحبهما بالقصة معتذرين إليه عما حصل. يلعبون في طفولتهم ثم يفترقون ويبقى «الغزل العُذري» بعيداً عن سوء الظن غيرة شديدة وكدلالة على أن معظم حكايات غزل السطوح تتوج بالزواج؛ فإننا نورد قصة طريفة من هذا النوع التي شهدت قصة غزل بين شاب معدم فقير وابنة الجيران، فقد توفيت أم هذا الشاب وهو صغير، ففكر والده أن يتزوج ولكن كان خائفاً من أن تعامل زوجته الجديدة ولده الصغير بقسوة، فقرر أن يتزوج خالة الولد، وقد كان قصده من هذا الزواج أن تتولى خالته تربيته وتكون كأمه في المعاملة الحسنة وتخاف الله فيه، وبالفعل تم هذا الزواج ولكن مع مرور الوقت بدأت معاملة الزوجة لابن اختها تتغير، فكانت تقسو عليه، وكلما رأت الولد جالساً مع أبيه يضحك ويلعب ويأكل معه ازدادت غيظاً وحنقاً وتكاد الغيرة تأكلها بسبب حبه له وتذكيره بوالدته التي يذكرها في كل حين، فكانت الغيرة تأكلها بسبب أن هذا الولد قد أخذ الجو منها، لذلك جعلت تفتعل المشاكل مع الصغير ليخلو لها الجو مع والده، ولكي تستأثر باهتمامه وحده من دون ولده، كان الوالد حائراً من أمر ولده وزوجته التي تقلب البيت نكداً كل يوم، ومع مرور الأيام بدأت خالة الولد تحسس الأب بأن ابنه كبر ويجب أن يستقل ويجلس في غرفة السطح حتى يستريح، وفي نفسها أن تستريح هي وتبعده عن والده، وكان هذا كيداً منها فوافق الأب وقال لولده خذ فراشك وملابسك واجلس في غرفة السطح لترتاح و"يصير أوسع لك صدر"، وبالفعل امتثل الولد لأمر أبيه فحمل ثيابه وأغراضه وغسل الغرفه وفرش بساطه ووضع المطرحه التي ينام عليها وهيأ مكانه، ووضع "صندوق الفاكهة الخشبي" -صندوق البرتقال القديم المجلد بتجليدة زمان- وبه دروسه. عين عورا واستكمالاً للقصة، كان "صندوق الفاكهة" مثل المكتب اليوم، وصار الابن في كل يوم بعد العصر يجلس يدرس في السطح بعيداً عن حر الغرفة، فقد كانت البيوت طينية ولا يوجد كهرباء، وفي يوم من الأيام زارت خالته جيرانها الملاصقين لها وكان عندهم بنت لها عين عوراء وعين نظرها ضعيف، فجلست الخالة تحكي لجارتها عن ابن اختها وكيف أنه طيب وخدوم، لكنها هي لا تتحمل أن تراه يذكر زوجها الذي هو أبيه بأختها وتمنت لو يطيعه ابيه ويزوجه ويخرجه من البيت، لكن من سيرضى به وهو فقير، ثم قالت لقد استرحت منه بعد أن صار يجلس وينام في غرفة السطح وصار والده وأنا لا نراه إلاّ قليلاً، وكانت ابنة الجيران تسمع كلام والدتها والجارة، وبعد أن ذهبت الجارة الى بيتها قالت البنت لأمها يا أمي أريد أن أغسل الملابس في سطح المنزل بدلاً من أن أغسلها في الحوش ومن ثم أطلع بها مع الدرج للسطح لأنشرها على حبال الغسيل والجدران، فذلك أسهل علي فوافقت الأم على ذلك، ومن الغد طلعت البنت الى السطح ومعها "طشت" الغسيل والملابس وصارت تغسل الملابس وهي تغني بصوت جميل فقد حباها الله بحلاوة صوت يدخل القلب وضحكة جميلة مغرية تدخل البهجة في النفوس وتنشيها، وصارت تغني سامريات وتهيجن وترفع صوتها ليسمعها هذا الشاب كغزل رقيق وحب من طرف واحد، فقد ملت من الخدمة في بيت أهلها وتمنت الزواج لتستريح من هذا العناء، وبالفعل فقد سمع الشاب هذا الصوت الجميل وصار في كل يوم يتحين طلوعها للسطح ويتسمع أجمل ألحان القصيد. «الهواوية» يتنهدون غزلاً وحباً وطرباً أمام منزل بنت الجيران خطبت لنفسها بعد أيام سُئل أحد أبناء الجيران عن ابنة الجيران هذه فأفادته إحدى البنات الصغار بأنها ابنة جارهم الوحيدة وهي عمياء، فصار اذا سمعها تغني وبدأت الغسيل رمى عليها ثيابه ظاناً بأنها عمياء حسب ما سمعه عنها وصارت تغسل ثيابه، وبعد أن تنزل وتنشف الثياب يتسلق الجدار الفاصل بينه وبين بيت جارته ويأخذ ملابسه ويعود، واستمر على هذا الحال مدة من الزمان حتى سمعها في أحد الأيام تقول في غنائها: سرى ليل وجا ليل وانحت نجومه وعيني جزت عن لذيذ النعاسي ويا لايمٍ بالهوى الله يلومه على عذب الأجناس وأقصر باسي سطا بي وقفا بحالي يدومه قضاني على كل ليّن وقاسي ثم سكتت وأطلقت ضحكة دخلت قلبه بعذوبتها، وقالت بصوت عال لكي تسمعه وهي تخاطب نفسها: "ايه يا فلانة تغنين على نفسك لو الله يرزقك باللي يكمل لك باقي القصيدة كان تعرسين عليه من غير شرط وتخدمينه بعيونك بالعورى والعمشا"، عند ذلك أدرك الشاب أنها تبصر وأنها تقصده بهذا الكلام، وبعد تفكير لم تحس هذه البنت إلاّ بالذي يطلع عليها من فوق جدار بيتها ويكمل لها هذه القصيدة وهي بالطبع تعرف تكملتها، لكنها كانت تخطب لنفسها بأدب وكأنها تقول بأن هذا مهري فقال: عادةٍ للعذارى قديمة يودّعن قلب المشقى مداسي سرى الطبل يلعي يقول ارجفوني على ملعب البيض زين اللباسي وبالفعل خطبها من أبيها فوافق وتم الزواج وعاش معها حياة سعيدة ولم يعبها عور ولم يشينه فقر. داء العشق وعندما ينمو الحُب ويكبر يحلو معه الغزل اللطيف، فيتمسك الحبيب بمن أحبها، ويبني آمالاً كبيرة بأن يجتمع مع من هواه في عش الزوجية، وأغلب حالات الغزل بين الشاب وبنت الجيران تتحول الى محبة مع مرور الوقت، ومن ثم يعقبها الخطوبة والزواج، ويكون هذا ناجحاً باذن الله، خاصة إذا كان الجيران من الأقارب، وخير مثال على أن الحُب يكبر وينمو مع الوقت بين الشاب وابنة الجيران هو ما حمله لنا التاريخ من قصص غرامية جميلة، لكن ما ينغص الأمر يفسده اذا قوبل طلب الشاب ليد ابنة الجيران بالرفض من أهلها، فتنتكس حالة الشاب وتسود الدنيا في وجهه، وربما يمرض ويهلكه داء العشق دون أن يدري به أحد، ومن أشهر هؤلاء العشاق هو "قيس بن الملوح" الذي وقع في حب ابنة عمه التي يعيش بجوارها منذ نعومة أظفاره، فتربيا سوياً وكانا يرعيان الغنم ويجلسان الساعات الطوال في غزل وغرام طوال وقت اجتماعهما، فلما كبرا حجبت عنه فلم يعد يستطيع أن يراها، فقال قصيدة رائعة معبراً عن حزنه الشديد واشتهر فيها هذين البيتين الرائعين: تعلقت بليلى وهي ذات ذؤابة ولم يبد للاتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم وبعد أن شابا وكبرا طلب يدها للزواج فرفض عمه تزويجه إياها، وزاد همه الذي أدى الى جنونه عندما زوجها عمه لغيره، فجُن وهام على وجهه في الأرض حتى مات وحيداً طريداً للعشق والهوى وفريسة له. الطلوع إلى السطح وكشف «بنات الجيران» ينتهي بالضرب غالباً غصّة حنين وفي عصرنا الحديث تتكرر المأساة لعدد من الشبان الذين علقوا بابنة الجيران وعاشوا معها أحلى قصص الحب والغرام والغزل، لكن بعد أن كبرا ونضجا وبلغا سن الزواج حال القدر بينه وبينها، فعاش هؤلاء حياتهم بغصة وتمنوا لمحبوباتهم اللاتي تزوجن من غيرهم حياة سعيدة، وتزوجوا هم بغيرهن، لكن تبقى في نفوسهم "غصّة" ذلك الحب التي يشوبها الحزن، وكثير من الشعراء عبر عن ذلك فألهبوا قصائدهم شوقاً، وترى الدموع تنحدر على الخدود عند إلقاء قصائدهم حرقة وألماً على ذلك الفراق، وأي فراق أشد لوعة من فراق الأحبة والعشاق، ولولا الملامة لصرحوا بمن يهوون في قصائدهم، لكن يمنعهم من ذلك حفظ الود والإخلاص للحب. وكثير منّا يحن لذلك الزمن الجميل زمن الحب والقلوب الصافية والغزل البريء والعفيف والبعد كل البعد عن تعقيدات الحياة المعاصرة، فهل يا ترى يعود، يقول الشاعر "فيصل اليامي" معبراً عن ذلك: ألا ليت الزمن يرجع ورا والا الليالي تدور ويرجع وقتنا الاول وننعم في بساطتنا زمان أول أحس إنه زمان فيه صدق شعور نحب ونخلص النيه وتجمعنا محبتنا زمن ما فيه لا غيبة ولا حتى نفاق وزور يا ليته بس لو يرجع ونسترجع طفولتنا صغار قلوبنا بيضا نعيش بعالم محصور ولا نعرف أبد أغراب ما غير عيال حارتنا صحيح صغار بالتفكير لكن ما علينا قصور نخطط نكسر اللعبة، وتسعدنا شقاوتنا كشختي دايم ويشاركه الشجون وذلك الهاجس الشاعر "أحمد الناصر الأحمد" فيقول: نسيتي المزح بالقبة ونسيتي لعبنا الطبة نسيتي كشختي دايم بثوب دوبلين أخبخب به نسيتي غترة الململ تغطيني تقل جبة نسيتي الركض بالطاية لا صار بدارنا شبة لاجابوا فضلة القرصان نتسابق ودنا نلبه نسيتي إزعاجنا لمك وهي بالحوش منكبة نسيتي معلف أم العوف تضفينه وأنا أكبه نسيتي ثوبك التنتر وغيظك لأنقطع حبه لا جابت أمك الوازلين نهج للحوش ما نحبه تبي تدهن قوايمنا وحنا نهوش ونسبه نسيتي بسطة عزيز ايلاجاء العصر بالقبه نسيتي خرطه الماصل يجيب الحكي من عبه نسيتي القربة الشنه وماها البارد نقبه نسيتي قولك معصقل وأنا أعيرك يالدبة نسيتي نعالنا التليك هي الموتر ونلعب به نسيتي من كثر ركضك أنا مسميك بالذبة نسيتي موعد الحنا ايلا جاء صابكن خبه نسيتي طيحتك بالليل وهي ظلماء وأنا السبه نسيتي أكلنا الهبود نتناقر والسبب حبه وأمك لا تهاوشنا تحط بعيوننا شبه نسيتي ثوبك الكرته ننكت فيه ونشبه نسيتي كحة المذن قبل ما يذن يبي ينبه نسيتي تريكنا المصنق نغسله قبل ما نشبه وندعى الله كود العنز تجيب وليد نلعب به نسيتي كيف أوصف لك زمان يعلمه ربه حلو رغم الفقر بالحيل زمان راح ونحبه نسيتي ليه ما أدري دخلتي الوقت من جنبه لك الفديو لك التلفاز لك المكياج ما احبه لك الدنيا وزخارفها وعطيني حظار مع قربه ومعهن مسفع بالي وثوب اللاس والطبه «طاق طاقية» جمعت شقاوة الجسد مع حروة الروح بين أبناء الحارة بنات الجيران قصص لا تنسى من الحب..والحب درج السطح بقي شاهداً على أيام لا تنسى من الحب والوله جيل يتذكر وآخر يروي مواقف الغزل في بيوت الطين