"تعتموا عندنا".. كلمة لا زال يتردد صداها في آذاننا، منذ ذلك الزمن الجميل الذي نتمنى أن لا يكون قد ولى بلا رجعة، فقدنا هذه الكلمة الجميلة التي تعني "السمرة اليوم عندنا" بين الجيران، خصوصاً من النساء والأطفال، واختصت هذه الجلسة بوقت "العتيم"، وهو الوقت الذي يبدأ من بعد صلاة العشاء إلى ما يقارب الساعة من الزمن، ويلاحظ اشتقاق اسمه من "العتمة"، وهي ظلمة الليل الشديدة التي تغطي كل شيء فلا يرى، وكما يقولون "الليل مغطي الجبال" أو "الليل أبو عين" أي لا يستطيع الشخص التمييز فيه بين الأشياء، وقد يمتد وقت جلسة سمر "العتيم" إلى ما بعد ساعات متأخرة بعد العشاء؛ لظروف معينة، كأيام الأعياد، أو الأفراح، أو الإجازات، أو غياب الزوج، وغيرها من الظروف البسيطة.. والجميلة أحياناً. تجلس مع وجيه «تفتح النفس» وقلوب «كلها حب» وتتحدث من دون تكلّف أو مظاهر وكان هذا الوقت يمثل فراغ المرأة من شغل بيتها، وإنهاء متطلبات زوجها وأطفالها، من طبخ، وتنظيف، وجميع شؤونهم اليومية؛ لتجد فرصة للترويح عن نفسها من هذا العناء الذي لا ينقطع يومياً، وذلك بالالتقاء بجارتها التي تبثها همومها وأحزانها، وتتجاذب معها أطراف الحديث، من المواقف الطريفة، والأخبار السعيدة، أمّا الأطفال فهم الشريحة الأكثر سعادة بهذا اللقاء؛ فتراهم يقضون تلك السمرة بين اللعب واللهو والمرح في جو تسوده الألفة والمحبة. سيدات قبيل الغروب يحملن أغراض عشاء «العتيم» والبنات لهن شأن آخر بطبيعة تركيبتهن النفسية، فتراهن يجلسن في مكان منزو، ويمارسن اللعب ويتحدثن عن أمور البنات، التي تتشعب في مواضيع عديدة، وعلى رأسها التزين واللباس، وربما يتطرقن إلى خصوصيات البنات في هذه المرحلة بشيء من الجرأة وعدم الخجل، فيتبادلن الخبرة من بعضهن لتدبير شؤون الحياة، والتأقلم مع المرحلة القادمة، وهي مرحلة النضج، ومن ثم «العتيم» شاهد على قصص الغرام والفراق بين المحبين الاستعداد للزواج المبكر -كحال جميع بنات جنسهن في ذلك الزمن-، فلم يكن الزواج له عمر معين، أو مرتبطا بإكمال الدراسة، أو شروط تعجيزية كتأمين منزل مستقل، ومهر غالٍ، وليلة فرح كبيرة، وسفرة إلى دولة أوروبية، فقد كان النصيب يطرق باب الفتاة منذ سن الخامسة عشرة أو أقل، ولا يكاد يمر عام من الزواج إلاّ وتكون أماّ قبل بلوغ الثامنة عشرة من العمر. وقت العشاء كانت وجبة العشاء في تلك الحقبة من الزمن تقدم بعد صلاة المغرب مباشرة، ويجتمع عليها جميع أفراد العائلة بلا استثناء، وتكون تلك الوجبة غالباً من الأكلات الشعبية، كالجريش، أو القرصان، أو المرقوق، أو مرق اللحم مع الخبز وغيرها، حيث توضع على السفرة المصنوعة من خوص النخيل على البساط، ليلتف حولها الجميع ولا يتخلف أحد، فيتناولون طعامهم الذي تحفه المحبة والبركة، ويسبق العشاء استعداد الأبناء للنوم فوق السطوح، خاصةً في فصل الشتاء، حيث يفرش "البسط"، ومن ثم يضعون فراش الأم والأب في سطح منفصل، أما الأولاد والبنات فيكونون في سطح آخر قريب، بحيث تكون فرش البنات بجانب بعضها وكذلك فرش الأولاد، فتبرد الفرش، فإذا جاء وقت النوم تساعد على سرعة النوم بهناء، وعند الصبح يتم نفض الفرش ونشرها على الجدران، أي إلقائها على الجدار لتضربها الشمس وتعقمها، بينما تستمع الأم لصوت مكائن "البلاكستون" التي في «بنشاور أبونا».. يعطيك انطباعاً عن احترام المرأة لزوجها ومراعاة «حدود الصلاحية» المزارع القريبة، لتحدد أقرب مزرعة يصدر منها الصوت؛ لتذهب لتغسل ملابس أهل البيت فيها، مصطحبة معها "الطشت" -الوعاء الذي تنظف فيه الملابس-، وقد تغسل أيضاً بعض الفرش في "اللزا" وهو مكان تجمع الماء من بركة المياه في المزرعة، لتعود بعد نشرها قليلاً في الشمس لتكمل عملية تنشيفها في البيت. لقاء متجدد يومياً قد تجمع سهرة "العتيم" الشباب الصغار من الجنسين، ويكون من أكثر المتحمسين لها الشباب الصغار قبل سن البلوغ ولكنهم مميزون، فقد تنشأ رابطة حب عذري بين الشاب وبنت الجيران منذ الصغر، حيث تجمعهم جلسة "العتيم"، وتكبر تلك المشاعر مع الزمن، ويزداد الشوق، ويتجدد الغرام، وتزداد لوعة الفراق بعد أن تحتجب تلك الفتاة في خدرها بمنزل أهلها، ولا يستطيع رؤيتها كما كان في السابق؛ فيزداد أسى على فوات تلك الأيام الخوالي التي كان يلتقي بها على الدوام حينما كانوا صغاراً، متذكراً قول "قيس بن الملوح" في محبوبته "ليلى" التي حجب عنها فقال: تعَلَّقتُ لَيْلَى وهْيَ غِرٌّ صَغِيرَة ٌ ولم يَبْدُ لِلأترابِ من ثَدْيها حَجْمُ صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا لَيْتَ أنَّنَا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم وقد يتجدد اللقاء بين الحبيب ومحبوبته بعد طول فراق، وذلك بأن يتقدم ذلك الشاب إلى أهل الفتاة من جيرانه بعد أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون قادراً على فتح بيت، فيتقدم بطلب يدها للزواج بعد فترة من الزمن، حتى وإن تفرق الجيران في الأحياء الجديدة، فتعود المحبة، ويتم الزواج، ويتواصل الترابط، وقد حملت الحكايات وجبة العشاء تكون بعد المغرب ثم لعبة «عظيم ساري» و«السواليف» قبل النوم في السطوح العديد من قصص الغرام والفراق بين المحبين، بعد أن شطت بهم الديار في قرية واحدة، بعد هجر الأحياء القديمة والراقية، ومنها ما تُوج بالزواج، ومنها ما حال القدر بين الأحباب، فظلت ذكرياتهم تجدد ولوعة وأسى تطرق القلب كلما مر ذكر اسمها. "أبونا"..! اعتادت المرأة على التلذذ بإطلاق تسمية محببة إلى الرجل وهي "أبونا"، فهو بالفعل أب لجميع أفراد العائلة بلا استثناء، فهو مسؤول عن الكل، وهو الذي يسعى إلى طلب الرزق والعمل على راحة الجميع، وتفقد أحوالهم، وإليه يلجؤون بعد الله في مشاكلهم، وما يعترض حياتهم من حوادث، فبأمره يأتمرون ولتعليماته يطبقون، فهو الآمر الناهي في البيت، وكلمته كالسيف تمضي بلا نقاش، أمّا المرأة فهي مكملٌ له في البيت، فهي التي تعنى بتربية الأطفال وهي مسؤولة عن التنظيف، والطبخ، والغسيل، كما تعمل على تهيئة الجو المناسب للزوج عند رجوعه إلى المنزل بعد الكد والعناء في توفير متطلبات البيت. وتجد بين الزوجين الألفة والمحبة، والمرأة في طوع زوجها، حيث تكن له احتراماً وتقديراً فلا تقدم على فعل أي شيء، إلاّ بعد مشورته وأخذ الإذن منه، فلا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه وهكذا، لذا تجد المرأة تعطي زوجها حقه من التقدير والإحترام بقدر ما يعطيها من الثقة والمحبة، وكثيراً ما تردد المرأة بفخر عندما تطلب منها جارتها مثلاً بعض الأمور كزيارة امرأة أخرى من الغد بأن تقول: "أبونا ما يطيع"، أو "بنشاور أبونا"، أي سنأخذ الإذن منه، فقد كان الأب فعلياً يستحق أن تطلق عليه هذه الصفة المجازية، فهو بالفعل أب للجميع من أهل بيته بما يقدمه من تضحيات وأعمال شاقة من أجلهم، كما أنّ الزوجة كان شغلها الشاغل هو منزل الزوجية، الذي تضيف إليه بلمساتها السحرية الهدوء والسكينة والمحبة. «العتيم» فرصة للفتيات للعب مع أقرانهن "عتيم" الرجال ما أن يؤدي الجميع صلاة العشاء في مسجد القرية، إلاّ ويهب المؤذن من أراد صلاة السنة بأخذ سراج المسجد والذهاب إلى بيته، حيث يذهب لينام ليكون أول من يفتح أبواب المسجد ويعلق السراج في محراب المسجد، فلم يكن هناك قديماً كهرباء، أما عدد من الناس فإنهم بعد الفراغ من صلاة العشاء يجتمعون في مكان فسيح من القرية، يتسامرون، وتكون أكثر هذه الجلسات في ليالي الصيف المقمرة، فبينما تكون النساء في مسيار "العتيم" مع جاراتهن؛ فإنّ الرجال كذلك يقضون وقت "العتيم" في مكان مفتوح من القرية على شكل مجموعات، كل من هذه المجموعات يتجاذبون أطراف الحديث، بينما الشباب يلعبون، خاصة في ليالي البدر لعبة "عظيم سرى" أو "عظيم ساري"، حيث يصطف الشباب مستقبلين أحد جدران القرية، فيما يرمي من يمسك العظم به بعيداً، محاولاً إبعاده وإخفاءه والثوب متشرح لحد الكراعين مابه ولا زر على الصدر مزرور وين القهاوي والرجال المسمين ياليتهم في هالزمن بيننا حضور في مكان يصعب الوصول إليه، ثم يقول: "عظيم سرى"، وعلى بقية أفراد الفريق البحث عنه، ومن يجد العظم منهم عليه أن يلتزم الصمت، وأن يحاول التوجه إلى المكان المخصص بشكل سري من دون أن يخبر أحداً؛ لأنّه قد يؤخذ منه العظم فيكون من أخذه هو الفائز، وله أن يرميه هو في الجولة القادمة، أما إذا وصل إلى المكان المخصص قبل أن يؤخذ منه العظم فيقول: "سرى"، ويعتبر فائزاً، فيرمي العظم على الباقين، بعد أن يديروا وجوههم للجدار حتى لا يروه. الحنين إلى الماضي عندما يتذكر الناس الماضي الجميل وأزقة القرية، وتراص البيوت، وألفة الجيران، وحياة الأنس، والضحكة الجميلة التي تخرج من القلب من دون تصنع، فإنّ الحنين إلى تلك الحياة الجميلة يتجدد، خصوصاً إذا قادت المرء قدماه إلى مراتع الصبا، وبيوت القرية الخاوية إلاّ من الذكريات الجميلة، فيطلق لخياله العنان متذكراً تلك الأيام الخوالي، وكثير من الشعراء قد أفاض في ذكر مكنون قلبه عن هذا الحنين، وتلك الذكرى فسطروا أبياتاً وثقوا فيها تلك الحياة، ومن هؤلاء شاعر المناطق "أحمد المانع"، والذي قال قصيدة بعنوان "ليت السّليل يعود"، والسّليل حي من أحياء مدينة "تمير" -مسقط رأس الشاعر-: ياعيال خلوا مدمعي فوق خدين ببكي على الأطلال ياعيال مجبور قالوا ورى تبكي على المساكن الطين والناس عقب الطين في فلل وقصور قلت إيه مير الزين يفرق عن الشين ليت السّليل يعود ونعود بزور إلى أن قال: قاموا بهدمه ودفعوا فيه تثمين وقض الشرف والساس حصاه منثور بدال ما يرمم من الحين للحين نسيوه والباقي خراب ومهجور راح الدلو وقليبه والنخلتين وأم الدبل خله ردم فوقه صخور لا وا حسافه رحت يالماضي الزين وأنا على فرقاك ما زلت مقهور ياما قضينا الصيف بين البرادين تقول تو الجو والغيم ممطور وقبل صلاة الصبح نقوم صاحين واللي متأخر يقعده صوت عصفور ولا جا الظهر جينا نقول الغدا وين يفوح ريحه قبل ينكب من قدور ياما بهاك السوق شلنا موعين نذوق الجيران ونمر بالدور ما ازين من العيشه وحنا بزارين تمر والذكرى من سنين وشهور والثوب متشرح لحد الكراعين مابه ولا زر على الصدر مزرور نمشي بحر الشمس فالسوق حافين ومشوخنا واجد وفي الراس صعرور وقال في ختامها: هذي مجالسهم إلى جو مصلين فيها سوافي الريح تهب وتبور وين القهاوي والرجال المسمين ياليتهم في هالزمن بيننا حضور على سراج القاز نلتم عشرين والبيت على قد الحال ما قيل خنبور كان التواصل بين الأهالي شائعاً رغم الحياة الصعبة «العتيم» شهد قصص حب ابتدأت من «دق الباب»