لا تسكن الخرافة شخصا من باب، إلا خرج عقله من الباب المقابل مباشرة، فالخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان. الخطابات التي تعتمد الخرافة تسعى عادة إلى تحجيم العقل والتقليل من شأنه وشأن أصحابه وتمارس هجاء منظّما له، وتورد الأدلة على أنه ناقص وقاصر، وأن الخرافة لها من القوة ما لا يملكه العقل، وأن ضعف العقل عن إدراك قوة الخرافة والوصول لمرتبتها المتسامية هو الذي يمنعه من التعامل معها أو تصديقها. ولتبرير الخرافة يتلمس موظّفوها ومستخدموها كل سبيل تربطهم بما يحبه الناس وينقادون له، من حكم وأمثال ومراجع علمية ودينية. في الحالة الإسلامية تمّ تدشين الخرافة بعد وقت ليس بالبعيد عن اللحظة النبوية وقد تلمّس لها أصحابها سببا يربطها بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. إن تصفح كتب التراث على شتى مشاربها وتنوعاتها يوضح أنها لا تكاد تخلو بشكل أو بآخر من ذكر للخرافات وتعلّق بها، والفرق والمذاهب الإسلامية قديما والحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة تنهل من ذات النبع وإن بدرجات متفاوتة فمستقل ومستكثر. بقدر ما يحدو العجز عن التعامل المنطقي مع الواقع إلى الخرافة، بقدر ما تحاول شرعنتها وتبريرها وتسويقها، ولذلك فهي تهرب من الواقع الذي تحكمه القدرات والإمكانيات، ولا يثمر بالأماني والأحلام بل إن إكسير نجاحه وقنطرته، تقوم على العلم الصحيح والعمل المنتج. وبسبب يتصل بالعجز عن العلم والعقل والعمل، تتجه كثير من الحركات الدينية والإسلامية المعاصرة لاعتماد مفاتيح ثلاثة تحاول من خلالها تقديم رؤية متماسكة للأبعاد الزمنية الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل. فتعتمد الرأي الدبري في قراءة الماضي، والعجائبيات ونظرية المؤامرة في قراءة الحاضر، والتفكير الرغبوي في قراءة المستقبل، والخرافة تحتل مكان الصدراة من هذه المفاتيح الثلاثة. ويدخل في تجليات الخرافة أربع أفكار رئيسية، تنتشر بشكل مرضي في فكر وتصورات شريحة واسعة من الأجيال الخاضعة للخطابات الآيديولوجية الدينية التي تكرس الخرافة، والأفكار الرئيسية هي: الكرامات، والأحلام، وأحاديث آخر الزمان، ونظرية المؤامرة. وسنمرّ بشكل سريع على هذه الأفكار الأربع، فالكرامات مصطلح يعبر به حسب اللغة التراثية الدينية عن المعجزات الخارقة للطبيعة التي تحدث لبعض الصالحين إكراما من الله لهم وتثبيتا، ويورد التاريخ الإسلامي قصصا فنتازية وخيالية لمثل هذه الكرامات، تقل وتكثر حسب المذهب والفرقة، ولا تكاد تنعدم إلا في القليل النادر، ولا تكاد ترجمة من تراجم العلماء والعباد والصالحين في التاريخ الإسلامي أن تخلو من تعديد كرامات المترجم له وسردها بالأسانيد، والامثلة التاريخية أكثر من أن تحصى، وفيها من العجائب والغرائب ما لايصدقه عقل، ولا يرضاه مؤمن، والعجيب أن كل فرقة تذكر كرامات لرموزها الذين تحكم الفرق الأخرى بخروجهم عن الإسلام وكفرهم، وتعتبر الكرامات الحقيقية التي يجب الإيمان بها هي كرامات رموزها هي الذين تعتد بهم، وترد الفرقة الأخرى بالمثل وهكذا دواليك. في العصر الحديث بدأت فكرة الكرامات الخارقة ونشرها لحث الشباب على الإقدام على الموت دون مبالاة مع الدكتور عبدالله عزّام في أفغانستان وكتب في ذلك كتابا مليئا بالخرافات والأكاذيب أسماه «آيات الرحمن في جهاد الأفغان»، وقد ملأه بالخرافات والأساطير التي يسميها الكرامات وفعلت فعلها في عقول وقلوب جيل كامل من شباب المسلمين الذين انخرطوا في الجهاد الأفغاني أو الحركات الإسلامية، ومن أمثلة خرافاته التي ذكرها في الكتاب قوله في ص25: «يحدثني (محمد داوود غيرت) قائد في وردك قائلا : أحاطت بنا الدبابات من كل جانب؟ وغطت سماءنا الطائرات؟ وكنا مجموعة كبيرة وأعداد العدو أكثر من عشرة آلاف مع مئات الدبابات؟ ففر معظمنا وبقيت بين عشرين مجاهدا صممنا على الموت؟ فاستشهد منا أحد عشر وبقينا تسعة مثخنين بجراحنا بعد جوع يومين في رمضان؟ وتقدمت إلينا الدبابات لتمسكنا أحياء فصرخنا بصوت واحد: الله أكبر فكأن مدينة بكاملها تكبر وهزمت الدبابات من صيحة (الله اكبر)!!» وقوله ص 42 «حدثني (أرسلان) استشهد معنا (عبد البصير) - طالب علم - وفي الظلام جئت أبحث عنه مع مجاهد آخر اسمه (فتح الله) فقال لي (فتح الله) إن الشهيد قريب لأني أشم رائحة طيبة ثم بدأت أشم نفس الرائحة فوصلنا الشهيد متتبعين رائحته؟ ولقد رأيت لون الدم في الظلام على النور الذي ينبعث من الجرح.» ليست هذه أعجب القصص ولكنها نموذج مبسط لنوعية التفكير التي كان يمركزها مثل هذا الخطاب في عقول جيل من الناشئة المحبة للخير آنذاك. أما «الأحلام» فإنه وفقا لنصوص الأحاديث النبوية فإنها تنقسم لثلاثة أقسام، الرؤيا، وحديث الشيطان، وحديث النفس أو أضغاث الأحلام. وتمييز هذه الأقسام عن بعضها عسير ويعتمد بشكل مباشر على علم المؤول والمفسر للحلم ونفسيته واهتمامه وقناعته، فما يفسره مفسر خيرا لأنه يوافقه يفسره آخر شرا لأنه يخالفه، ثم إن احتمال أن يكون الحلم رؤيا شرعية هو أقل الاحتمالات وبنسبة الثلث في مقابل الثلثين، وبلغة تراثية فإنه حتى لو كان الحلم رؤيا فإن الرؤيا حسب النصوص وكلام الفقهاء لا يبنى عليها حكم ولا عمل، وإنما هي «مبشرات» تريح قلب المؤمن وتمنحه سلاما داخليا. وفي التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة على تضخم الرؤى والاعتداد بها ليس هذا مجال سردها. في العصر الحديث ابتدأت جماعات الإرهاب الديني في العالم العربي في مركزة «الرؤيا» كأساس تنطلق منه الحركة الإرهابية مع جهيمان العتيبي وحركته في مطلع القرن الهجري في الحرم المكي الشريف، وقد أسهب هو ومن معه في جمع أحاديث الرؤى والأحلام التي تبرر ما فعلوا من جريمة شنيعة في مكةالمكرمة وداخل أروقة الحرم الشريف. وقد انتقل هذا الداء لكثير من حركات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية في العالم كالقاعدة ومن معها من الجماعات ومتابعة إصداراتهم العلمية والإعلامية توضح كم تنضح عقلياتهم بمثل هذه الخرافة وتعتمد عليها سبيلا للعلم والعمل، ومجلة صوت الجهاد التي كان يصدرها ما يسمى بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب توضح هذا الأمر بجلاء. كثيراً ما تورد الديانات والفلسفات الكبرى قراءات للمستقبل تتسم غالبا بالغموض والتعميم، وقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تتحدث عن آخر الزمان اصطلح على التعبير عنها تراثيا بأحاديث آخر الزمان أو أحاديث الفتن والملاحم وفيها الكثير من المؤلفات القديمة والمعاصرة. ويعتمد الخطاب الإسلامي الذي يعتمد الخرافة على انتقاء مجموعة من هذه الأحاديث وتنزيلها على الوقائع المعاصرة، ومن أمثلة ذلك ما فعله جهيمان العتيبي في أكثر من كتاب من كتبه، وما فعله بعض رموز الإسلام السياسي إبان أزمة الخليج الثانية والغزو العراقي للكويت، من أحاديث تتحدث عن قدوم الروم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشرألفا، وتطبيق ذلك على حرب الخليج تلك، وكذلك وما فعله تنظيم القاعدة بالترويج لطالبان باعتبار قادتها وجنودها هم أصحاب «الرايات السود» التي تأتي من المشرق كما جاء في بعض أحاديث الفتن، تماما كما فعل العباسيون من قبل للتمهيد لثورتهم ضد الأمويين، لتستمر السلسلة ويتم خلط الأحاديث الصحيحة بالمكذوبة، وتفسر النصوص الشرعية من ثقب حدث صغير في هذه الفترة الزمنية أو تلك، ما يعرضها للتكذيب بمجرد تغير الحدث، دون أن يؤثر ذلك في قناعة مروجيها والمقتنعين بها. ويدخل في سيطرة الخرافة على تفكير الجماعات الدينية التي تروج للخرافة مركزية نظرية المؤامرة في تفكيرهم، وقد تلقفوها من بعض التيارات القومية وبث فيها رموز الإسلام السياسي الكثير من الروح وروجوها بكثافة لدى أتباعهم وكان الإخوان المسلمون وغيرهم يروجون لكثير من الكتب التي تصب في تأييد نظرية المؤامرة، وكانوا يوزعون كتيِّباً صغيراً لجلال العالم أحسب ان اسمه كان «قادة العالم يقولون دمروا الإسلام وأبيدوا أهله»، ومن أشهر الكتب التي قام بنيانها على هذا الأساس كتاب محمد قطب «واقعنا المعاصر» الذي اعتبر فيه أن النظريات الغربية الأهم بالنسبة إليه كتبها «جميعا» كتّاب يهود بقصد محاربة الإسلام، نظرية اليهودي داروين في النشوء والارتقاء، ونظرية اليهودي فرويد في علم النفس، ونظرية دوركايم في علم الاجتماع، وتطرق لليهودي اسبينوزا وغيره من فلاسفة وعلماء الغرب، وهؤلاء جميعا كانوا معادين لأديانهم وقد حكمت بهرطقتهم وكفرهم المؤسسات الدينية الرسمية في وقتهم، وقد طوّر بعض الإسلاميين المعاصرين نظرية جديدة تصب في ذات السياق وإن بحلّة أكثر جدة، هي «نظرية التحيّز» التي اخترعها الدكتور عبدالوهاب المسيري، وروّج لها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، وتأثر بها عدد من الباحثين في أكثر من مجال، وملخصها أن النظريات الغربية في شتى أنواع العلوم حتى التطبيقية منها كالرياضيات والفيزياء هي نظريات منحازة للثقافة الغربية!.