دغدغة المشاعر بين النخوة والإنسانية والتمرد    استشاري التدريب التقني يناقش التخصصات الجديدة والاستثمار الواعد    رفض واسع يطوق قرار نتنياهو ويفشل رهاناته في القرن الإفريقي    أمطار متجمدة تغرق مخيمات غزة وتفاقم معاناة النازحين    مدينة الفل تنثر الثقافة وتروي تاريخ الأجداد    أبها يتمسّك بالصدارة.. والدرعية يقفز إلى الوصافة    الاستديو التحليلي يطوّر قراءة أشواط مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    إيقاف شركة عمرة ووكيلها الخارجي لمخالفة التزامات السكن    أمير حائل يدشّن مشروعات تعليمية بالمنطقة بأكثر من 124 مليون ريال    أمير القصيم يدشّن مبادرة "الهاكثون البيئي" لدعم الابتكارات والأفكار البيئية الرائدة    تهيئة محيط مشروع المدينة العالمية بالدمام وتعزز انسيابية الحركة المرورية    تعليم الطائف يتجاوز المستهدفات الوطنية في برامج ومسابقات الموهوبين    فرع الشؤون الإسلامية بالقصيم ينفّذ أكثر من 2600 منشط دعوي خلال شهر    الندوة العالمية تفتتح مستوصفاً طبياً جديداً لخدمة آلاف المستفيدين في بنغلاديش    إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة    مستشفى الأمير سلمان بن محمد بالدلم ينقذ حياة مقيم تعرّض لإصابة خطيرة    سوق الأسهم السعودية يخسر 109 نقاط في أولى جلسات الأسبوع    بدء استقبال وثائق مقدمي خدمة إفطار الصائمين في رمضان بالحرمين    ترقية د.رانيا العطوي لمرتبة أستاذ مشارك بجامعة تبوك    ديوان المظالم يطلق أول هاكاثون قضائي دعمًا للابتكار    باكستان تدين اعتراف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يسمى أرض الصومال    ماذا يقفد آباء اليوم ؟!    "التجارة" تشهر ب 60 مواطنًا ومقيمًا لارتكابهم جرائم التستر التجاري    أمانة القصيم تعزز الأجواء الشعبية بفعالية الطبخ الحي في حديقة إسكان بريدة    جمعية فنون التصميم الداخلي تنطلق برؤية وطنية وأثر مستدام    رحل إنسان التسامح .. ورجل الإصلاح ..    حقيقة انتقال روبن نيفيز إلى ريال مدريد    هدف النصر والهلال.. الخليج يفرض شروطه لرحيل مراد هوساوي    علامة HONOR تعلن الإطلاق الرسمي لهاتف HONOR MAGIC8 PRO بعد النجاح اللافت للطلبات المسبقة في السعودية    السماء أكثر زرقة وصفاء في الشتاء لهذا السبب    ختام رائع لمهرجان كؤوس الملوك والامراء 2025    اختتام الدراسة المتقدمة للشارة الخشبية في نجران بمشاركة 40 دارساً ودارسة    ناويا إينوي يحافظ على لقبه العالمي في ليلة الساموراي بمحمد عبده أرينا    الجزائر تعرب عن قلقها إزاء التطورات في المهرة وحضرموت وتدعو إلى الحوار    إصابة خالد ناري بكسور في القفص الصدري بسبب حارس النصر    اعتلى صدارة هدافي روشن.. رونالدو يقود النصر لعبور الأخدود بثلاثية    10 أيام على انطلاق كأس آسيا تحت 23 عامًا "2026 السعودية"    في كأس أمم أفريقيا بالمغرب.. الجزائر والسودان يواجهان غينيا وبوركينا فاسو    مسيرات الجيش تحدّ من تحركاته.. الدعم السريع يهاجم مناطق ب«الأبيض»    رواية تاريخية تبرز عناية الملك عبدالعزيز بالإبل    لطيفة تنتهي من تصوير «تسلملي»    فسح وتصنيف 70 محتوى سينمائياً    53 مليار ريال حجم الامتياز التجاري    القيادة تعزي رئيس المجلس الرئاسي الليبي في وفاة رئيس الأركان العامة للجيش الليبي ومرافقيه    موجز    دعا لتغليب صوت العقل والحكمة لإنهاء التصعيد باليمن.. وزير الدفاع: لا حل ل«القضية الجنوبية» إلا بالتوافق والحوار    أفراح التكروني والهوساوي بزواج محمد    ضمن جهودها لتعزيز الرقابة الصحية.. جولات رقابية لمراكز فحص العمالة الوافدة    الداخلية: ضبط 19 ألف مخالف    الخارجية اليمنية: جهود السعودية مستمرة لحفظ الأمن    عصير يمزق معدة موظف روسي    مختص: لا ينصح بأسبرين الأطفال للوقاية من الجلطات    وزير الداخلية: يطمئن على صحة رجل الأمن الجندي ريان آل أحمد    إطلاق 61 كائنًا بمحمية الملك خالد    أمير المدينة يتفقد العلا    بيش تُضيء مهرجان شتاء جازان 2026 بهويتها الزراعية ورسالتها التنموية    وزير الداخلية تابع حالته الصحية.. تفاصيل إصابة الجندي ريان آل أحمد في المسجد الحرام    تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وزير الداخلية يطلع على مبادرات الجوف التنموية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علَّم نفسه فصار من أكبر رواد العلم
نشر في الرياض يوم 03 - 01 - 2010

بما أن الإنسان كائنٌ تلقائي فإنه لا يندفع للبحث بشوق ويُخلص فيه بصدق ويواصل التنقيب عن الحقيقة باستمتاع ويكرر المحاولات من غير ملل ولا كلل ولا يشعر بمرور الوقت وهو غارقٌ فيه ومستمتع به إلا إذا كان يحسُّ إحساساً تلقائياً عميقاً بلذة البحث أو كان مدفوعاً بحاجة ذاتية شديدة للتحقق والفهم وليس فقط للنجاح المدرسي أو للشهادة الأكاديمية كما أن الحقائق والأفكار والرؤى والمهارات لا تندمج في تكوينه الذهني وتخالط وجدانه وتصبح عتاداً تلقائياً من عتاده النفسي إلا إذا كانت شوقاً عميقاً من أشواقه الذاتية، أما التجرع الاضطراري للمعرفة فلا يُفضي إلا إلى الخواء فلا يمكن فهم الأفكار ولا هضم العلم ولا إتقان العمل ولا حُسْن التعامل ولا الإبداع في العلم والفن ولا المهارة في الأداء ولا التفوق في أي نشاط إنساني إلا بالعشق له والاندماج فيه ذهنياً وعاطفياً...
ويُعَدُّ عالم الفيزياء الإنجليزي الشهير مايكل فراداي (1791 - 1867) نموذجاً لهذا العشق وهذا الاندماج، هذا العالم الفذ لم يتلق من التعليم النظامي سوى بعض المرحلة الابتدائية فقد كا أبوه - حداداً فقيراً وكانت الأسرة من شدة الفقر تسكن فوق حظيرة لعربات الخيل فاضطر مايكل أن يكتفي بتعلُّم القراءة فقط ليعمل صبياً بمحل لتجليد الكتب وكانت هذه المهنة المرتبطة بالمعرفة من أهم أسباب عشقه للعلم فهذا الارتباط أدَّى إلى التعلق الشديد بالكتاب واللهفة المتجددة بالعلم لأنه يمتلك القابلية القوية الذاتية ولولا هذه القابلية لربما كانت المهنة سبباً للنفور من الكتاب وما يرمز إليه لأن مثل هذه المهنة تجلب التعب لصبي في مثل عمره لكن قابليته المتفوقة جعلته يَنَكَبُّ على الكتب التي يراد تجليدها ليمتص عقلُه منها رحيق العلم وقرأ كتاباً بعنوان (ترقية الذهن وإنماؤه) تأليف وات فأشعل لديه الرغبة الشديدة الجامحة في أن يصير عالماً فدفعه هذا الطموح إلى البحث عن أي عمل يُقَرِّبه من العلم فأتيح له أن تتجسد معارفه النظرية التي قرأها بمحل تجليد الكتب حين التحق صبياً بمعمل السير همفري دافي وكما أن همفري ذاته قد علّم نفسه حين عمل أيضاً صبياً في صيدلية بورليز ومختبره فإن فراداي أيضاً قد علّم ذاته بمختبر همفري بسرعة فائقة فقد كان هدفه الأساسي من التحاقه بهذا العمل هو أن يتعلم وأن يُروي ظمأه ويُشبع نهمه إلى المعرفة فقد كان شغوفاً بالكشف إلى درجة الاستغراق فكان يجد في ذلك متعة عقلية هائلة تغنيه عن جميع المتع الجسدية فاكتشف البنزين في مجال الكيمياء واستخرج أول فولاذ لا يصدأ كما استخلص قوانينه الخاصة بالتحليل الكهربائي وهو الكشف الأهم في مجال الفيزياء فحقق إبداعات مهمة في أهم حقلين من علوم الطبيعة التي قامت عليها الحضارة المعاصرة فصار اسم فراداي يُقْرن باسم نيوتن وآينشتاين وأمثالهما من عمالقة العلم وأصبح اسمه يتردد في كل كُتب تاريخ العلم ودراساته بوصفه من أبرز رواد العلم ومن أعظم الفاتحين لأبواب الازدهار الحضاري...
يؤكد ذلك كلٌ من مؤرخي العلم ومنهم الفلسوف البريطاني برتراند راسل وهو كما يعرف المهتمون عالم رياضيات شهير وفيلسوف كبير إنه مبدع خارق وفيلسوف عظيم وهو يحظى باحترام عالمي واعتراف عام على المستوى العالمي بأهميته الفكرية والفلسفية والعلمية وهو في كتابه (النظرة العلمية) يؤكد أن الرغبة الذاتية التلقائية في المعرفة هي الحافز الحقيقي للبحث وأن هذه الرغبة التلقائية المتأججة هي التي دفعت إلى الاكتشافات العلمية الحاسمة وهو يرى أنه يستحيل أن يتوصل أي باحث إلى أي كشف مهم أو تقدم كبير في العلم ما لم يكن مندفعاً تلقائياً برغبة ذاتية ملحة ثم يقول عن فراداي: «خُذ مثلاً نظرية المغناطيسية الكهربائية التي تعتمد عليها استخدام اللاسلكي نجد أن المعرفة العلمية المتصلة بهذه النظرية قد بدأت (بفراداي) فهو أول من فَحَصَ تجريبياً العلاقة بين الوسط المتداخل ، وبين الظواهر الكهربائية كما اكتشف بأساليب نظرية بحتة أن الضوء يتركب من موجات مغناطيسية كهربائية فلم يبق إلا أن يُخترع جهاز يمكن به توليد هذه الموجات بحيث تحقق نفعاً تجارياً وهذه الخطوة قد خطاها ماركوني» والمعروف أن ماركوني أيضاً قد علّم نفسه بنفسه فهو مثل فراداي لم يتلق تعليماً نظامياً وإنما هو رائدٌ عصاميٌ كوّن نفسه بنفسه كغيره من الرواد العصاميين حتى حصل على جائزة نوبل في الفيزياء لقاء أعماله الباهرة وسوف أخصّه هو الآخر أيضاً بمقال مستقل إن شاء الله...
ويتفق وزير التربية الفرنسي الأسبق كلود أليغر في كتابه (العلم للجميع) مع برتراند راسل على أن الكشوف العلمية الخارقة والحاسمة والمهمة لم يحققها الذين لا يتجهون للبحث والتعليم إلا من أجل هدف عملي أو مصلحة ذاتية كالحصول على شهادة وإنما يحققها الذين يبحثون من أجل الفهم لذاته ويورد أمثلة كثيرة تؤكد أن الرواد الباحثين عن الفهم المحض هم الذين حققوا الكشوف العلمية المهمة وكذلك الاختراعات وقد تتبع إنجازات الرواد المؤسِّسين الذين علّموا أنفسهم فأنجزوا في العلوم كشوفاً أساسية عظيمة فتحتْ للإنسانية أبواب المعرفة الممحَّصة والتقنيات الهائلة من أمثال: لافوازييه ودالتون وفراداي وليفنهوك ومندل وتايلور وغيرهم من الرواد الذي علّموا أنفسهم وحققوا إنجازات علمية أساسية خارقة فتحت للدارسين أبواب العلم وأتاحت لهم إمكانات التعلّم ويشير إلى أن الدراسات عن الكهرباء قد حققت قفزة مهمة جداً بفضل جهود (امبير) و(فراداي) ويعتبر أن الفضل الأكبر في تحقيق هذه القفزة العلمية يعود إلى (فراداي) ويؤكد أن ما توصل إليه فراداي: «هو الأكثر روعة في تاريخ العلوم» ويقول: «كان فراداي بدون أي تكوين علمي (مدرسي وأكاديمي) ومع ذلك استطاع أن يكون عالماً فيزيائياً مهماً حيث أنجز أحد الأعمال العلمية النظرية والتطبيقية في آن واحد» ثم يقول: «فراداي هو الذي فتح الباب للدخول إلى الفيزياء الحديثة وإلى فهمنا للكهرباء وكذلك إلى الثورة التكنولوجية» ويتحدث عن المغناطيسية ثم يقول: «إنها أساسية لأنها هي التي فتحت الباب للدخول إلى مفهوم حقل القوة الذي أدخله العبقري فراداي فقد تصور فراداي ما سيكون عليه الحقل الكهربائي المولّد بواسطة ما نسميه ثنائي القطب أي شحنة موجبة وأخرى سالبة مفصولتين بمسافة محدّدة» وفي موضع آخر من الكتاب يقول وزير التربية الفرنسي: «فراداي هو أحد أكبر النظريين في الفيزياء فهو رجلٌ بدون تربية تعليمية لكنه صنع نفسه بمستوى التربويين الخارقين وضع أساس الكهرامغناطيسية بفضل مسيرة منطقية بكل ما لهذه الكلمة من معنى» وأكرر التأكيد على كلمة (الخارقين) ففراداي حين عّلم نفسه لم يصبح فقط بمستوى التربويين وإنما قفز إلى مستوى الخارقين منهم وهذا منطقي تماماً فالرائد الذي تربى على الاستقلال في التفكير والانفتاح على الآفاق والريادة في الفكر والفعل يختلف عن الذين تربّوا على أن يقادوا وأن يجتروا ما تشرّبوه تلقائياً من بيئاتهم وأن يظلوا مجرد منشدين ومرددين...
ثم يؤكد كلود أليغر بأن ما انتهى إليه فراداي كان فاتحة تطورات علمية وصناعية واقتصادية وحضارية هائلة فيقول: «لا بد من التأكيد على أن الكهرباء كانت مفتاح التطور الصناعي في القرن العشرين وسمحت بالسيطرة الاقتصادية على العالم الجديد لأن الأسطورة الكهربائية خارقة لدرجة أنها كانت من وجهة نظر أساسية قاعدة للتطور الصناعي» إنه بهذا يؤكد الحقيقة التي تشهد لها وقائع الفتوحات العلمية من أن الذين حققوا الكشوف العلمية الباهرة لم يكونوا باحثين عن نفع شخصي وإنما كانوا مندفعين تلقائياً بحافز داخلي تلقائي للبحث الجاد الموصول من أجل الفهم ذاته وليس بحثاً عن شهادات أو منافع عملية أو مادية أما التطبيقات العملية فتأتي من آخرين يبحثون عن المنافع المادية وهو يعلق بذلك على موقف رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وليم غلاديستون الذي سأل فراداي ساخراً: ما فائدة اكتشافاتك كلها؟! متوهماً أنها كشوف تجريدية لا تفضي إلى نفع مادي ومع أن فراداي لم يكن يعنيه هذا النفع وإنما كان يبحث من أجل الفهم إلا أن ما توصل إليه صار مفتاحاً للتطور الصناعي والتقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي لأن فهم الطبيعة يؤدي إلى تسخيرها...
لقد حقق فراداي كشوفاً علمية ثورية وكما يقول عنه أكبر وأهم فلاسفة العلم في القرن العشرين كارل بوبر في كتابه (أسطورة الإطار): «من المنظور العلمي كانت ثورة فراداي وماكسويل ثورة عظيمة كثورة كوبرنيكوس تماماً وربما أعظم لقد أطاحت بمعتقدات نيوتن اليقيني القاطع بالمركزية وألهمت جيلاً كاملاً من الفيزيائيين» ومن المعروف أن كارل بوبر بمكانته العلمية العالمية وصرامته النقدية لا يمكن أن يتساهل في منح الثناء ما لم يكن ذلك عن قناعة راسخة أما عن الجمع بين فراداي وماكسويل فسببه أن عمل ماكسويل مكمل لما توصل إليه فراداي فقد صاغ اكتشافات فراداي في معادلات رياضية وقد وصف عالم الفيزياء الشهير جون برنال في المجلد الثاني من كتابه (العلم في التاريخ) فراداي بأنه واحد من أعظم علماء كل العصور وللقارئ أن يتصور هذه الأهمية وهذه الانجازات العلمية الثورية العظيمة ويقارنها ببعض المتحذلقين من حملة الشهادات الشكلية الفارغة..!!!
ويشير هايزنبرج الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء في كتابيه (الفيزياء والفلسفة) و(المناهل التاريخية) إلى سلسلة ثورات علم الفيزياء وبيعد كشوف فراداي هي الانجاز الأكبر في القرن التاسع عشر ويتوقف عند فكرة ومفهوم المجال الكهرومغناطيسي الذي أرساه فراداي وصاغه رياضياً ماكسويل ويشير إلى الصعوبة التي واجهت العلماء في استيعاب هذا المفهوم ويؤكد أن الفيزيائيين لم يستوعبوه ويتقبلوه إلا بصعوبة وبعد تلكؤ لأنه مفهوم موغل في التجريد والخفاء...
ويتكرر التأكيد نفسه في كل الكتب التي تؤرخ للعلم فهذا سيرل أيدون يشيد في كتابه (فضولية العلم) بفراداي ويبرز دوره الأساسي في تقدم العلم وفي ازدهار الحضارة ويقول: «يُعد فراداي بين صفوة علماء القرن التاسع عشر وأحد أعظم الفيزيائيين في التاريخ الإنساني» ثم يؤكد أنه قد أظهر مواهب أخرى مهمة ومنها القدرة على الخطابة وجذب المستمعين وإثارة فضولهم والقدرة على تبسيط العلم فيؤكد أنه كان: «أنجح محاضر عام فقد أظهر موهبة استثنائية في تقريب العلم للعامة» وجذبت محاضراته شرائح واسعة من العلماء والأدباء وعامة الناس وكان العالم الشهير تشالز داروين والروائي المعروف تشارلز ديكنز من المواظبين على حضور محاضراته التي وُصفت بأنها كانت تأخذ بألباب الحاضرين وأنفاسهم...
إن هذا العالم العظيم الذي كوَّن نفسه بنفسه بهذا المستوى الابداعي المدهش لم يحقق ذلك بمحض عبقريته ولا بالانتظام الدراسي النظامي ولكنه حققه بالرغبة الذاتية الجياشة والاندفاع الذاتي العفوي والاهتمام التلقائي المستغرق ولم يكن يبحث عن أي كسب مادي ولا حتى عن مكاسب معنوية فيذكر مؤرخو العلم بأنه لم يكن يهتم بأوسمة الشرف ولا بشارات التقدير التي مُنحت له وكان يرفض الشهادات الاكاديمية الفخرية كما رفض رئاسة المعهد الملكي والجمعية الملكية ولم يقبل ضمه إلى طبقة النبلاء فقد كان مدفوعاً برغبة تلقائية عارمة إلى الكشف والفهم وقد وجد الاستجابة العامة المندفعة من المجتمع البريطاني حكومة وشعباً ثم من المجتمعات الأوروبية ثم من العالم كله بوصفه من أبرز رجال العلم في التاريخ الإنساني فقد مُنح لقب فارس (سير) كما عرضت عليه جامعة لندن منصب أستاذ للفيزياء لكنه آثر عليه منصب مدير مختبر المؤسسة الملكية الذي اختير له كما منحته الملكة فكتوريا منزلاً كبيراً مريحاً أمضى فيه بقية حياته...
وللدور العظيم الذي نهض به فراداي في تقدم الحضارة الإنسانية فإن الدكتور مايكل هارت قد جعله في طليعة (المائة الأوائل) في التاريخ الإنساني كله فجاء ترتيبه (28) بين أعظم الأشخاص الذين أثروا في الحياة الإنسانية منذ بدء الخليقة حتى قرب نهاية القرن العشرين وهذا يؤكد أن هذا الرجل الذي علَّم نفسه بنفسه كان من أبرز رواد الإنسانية ومن أعظمهم نفعاً وأوسعهم تأثيراً وكما تقول الكاتبة الأمريكية بولتون في كتابها (مشاهير رجال العالم): «أدى به استقصاؤه بأن الفراغ بكامله مليء بخطوط قوة من أنواع مختلفة: الكهربائية والمغناطيسية والإشعاعية والحرارية والتجاذبية وكان ذلك فاتحة لفكرة (المجال) التي أدت بصورة مباشرة إلى نظريات ماكسويل وآينشتاين وإلى ثورة في علم الفيزياء» وكما يقول أيضاً العالم الشهير برونوفسكي في كتابه (العلم والبداهة): «فراداي أوجد الرابطة بين الحركة الآلية وحدوث التيار الكهربائي» ويتحدث عنه باحتفاء وتبجيل في كتابه الآخر (ارتقاء الإنسان) وقد كان فراداي متميزاً بخصوبة الخيال وطلاقة اللسان والأهم من ذلك اندفاعه للبحث باهتمام تلقائي قوي مستغرق وغبطته بهذا الاستغراق واستعداده للتخلي عن كل متع الحياة من أجل الاستمتاع الغامر بالكشف والابتهاج اللذيذ بالفهم وقد ظهر لمؤرخي حياته بأنه منذ طفولته كان حريصاً على الملاحظة وعلى تدوين ما يراه نافعاً: «تحدوه رغبة جامحة مستميتة لأن يصبح عالماً» ومع أن فراداي أنجز اختراعات مهمة إلا أنه لم يكن يهتم بالاختراع ذاته وإنما كانت اختراعاته من أجل مواصلة بحوثه العلمية الأساسية ومحاولة التحقق من حدوسه الخارقة فجميع عمله العلمي يدخل ضمن ما يُطلق عليه الآن اسم البحوث الأساسية...
ولمكانته العلمية العظيمة ودوره الكبير في الفتوحات الحضارية فإنك لم تجد كتاباً في تاريخ العلم إلا ويخصه بما يستحقه من الإعجاب به والتنويه بدوره العظيم فمؤرخ العلم فوربس وزميله ديكستر هوز يخصانه في الجزء الثاني من كتابهما (تاريخ العلم والتكنولوجيا) بالكثير من الإعجاب والإشادة ويصفان اكتشافه بأنه اكتشاف كبير وأن تطبيقات هذا الاكتشاف بالغة الأهمية وأنه هو قد: «أدرك في التو واللحظة الأهمية النظرية الهائلة لاكتشافه كما أدرك أهميته الفنية والعملية» ويشير المؤلفان إلى أن ما أنجزه فراداي قد فتح المجال لماكسويل واينشتاين وغيرهما من عظماء علم الفيزياء ويصفان ما أنجزه فراداي بأنه: «ربما تكون الكميات الكبيرة من الفولاذ والكهرباء المتاحة بسهولة والزهيدة الثمن قد غيَّرت وجه العالم تغييراً شاملاً يفوق ما أحدثته أية عوامل أخرى» وليس هذا سوى بعض ما أنجزه هذا الرجل العظيم الذي علّم نفسه برغبة متأججة وسعى للعلم باهتمام ذاتي تلقائي قوي مستغرق وحقق بهذا الاستغراق الذاتي التلقائي ما لم يحققه الآلاف من أصحاب الشهادات الاكاديمية العالية...
وأختم المقال ببعض ما قالته عنه البروفيسورة تيرنر في كتابها (الكشف العلمي) فهي تؤكد أن أبحاثه تقدم مثالاً رائعاً للطريقة العلمية وترى أنه نجح فيما فشل فيه غيره من الباحثين وتؤكد: «أن أبحاثه قد أدت إلى اكتشاف من أهم الاكتشافات ذات الأثر البعيد المدى في تاريخ العلم وذلك هو الحث الكهرومغناطيسي»​ فهذا الكشف هو الذي فتح الأبواب لتوليد الطاقة الكهربائية وتعميم نفعها في كل مجالات النشاط وفي جميع نواحي الحياة...
ولا بد من التأكيد بأن علينا أن نهتم بالتعليم أبلغ اهتمام وأن نحث الجميع على مواصلة الدراسة باهتمام قوي ورغبة شديدة ولكن علينا جميعاً أن ندرك أن النجاح المدرسي والتفوق في التعليم النظامي ليس دلالة على القدرة الابداعية بل بالعكس قد يكون برهاناً على غياب الروح الفردية ولكن الابداع ليس منتظراً من كل المتعلمين ومن جميع الناس وإنما يكفي منهم الاستجابة للابداع والسير خلف الرواد فالاستجابة أقوى آثاراً وأعظم نتائج من الريادة ذاتها مهما كان موضوعها ومهما بلغ مستواها فالرواد والمبدعون يظهرون في كل المجتمعات لكن غياب الاستجابة الاجتماعية هو المعوِّق الحقيقي للتقدم فالمجتمعات المتخلفة تتوهم أن سوء أوضاعها يعود لغياب الابداع بينما أنه في معظمه يعود لغياب الاستجابة العامة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.