العلاقات السعودية - الأمريكية: احترام التاريخ والتعاون    "عبدالله بن فهد" يتوج الفارس السعودي "السالمي" بلقب كأس خادم الحرمين الشريفين للقدرة والتحمل في العُلا    وزير الرياضة يستقبل رئيس الأولمبية الدولية في الرياض    جوارديولا يسخر من حكام الدوري الإنجليزي بعد إصابة نيكو جونزاليس    شركة اليسر راعيًا ذهبيًا في مؤتمر ليب 2025    الصين تعلن اكتمال بناء أكثر من 30 ألف مصنع ذكي    تضم 24 وزيراً.. حكومة نواف سلام تبصر النور    إزالة 270 موقعًا عشوائيًا شمال بريدة    برنامج ماجستير لتمكين الكوادر الوطنية من قيادة القطاع السياح    1383 حالة ضبط للمنوعات بالمنافذ خلال أسبوع    وزير التعليم يكرم المعلمة اللحياني    تخصصي تبوك يكرّم الموظفين والأقسام المميزة    القبض على 6 مخالفين لنظام أمن الحدود لتهريبهم 95 ألف قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    القتل تعزيراً لأمير زاده لتهريبه الهيروين    هل تنجح المساعي الأفريقية في حل أزمة الكونغو الديمقراطية؟    الأمير تركي بن هذلول يفتتح مهرجان «الرقش النجراني» لعام 2025    أمير القصيم يشيد بتميز مهرجان الكليجا ال16 ويؤكد دعمه للحرف التراثية    روسيا: تخفيض سعر صرف الروبل أمام العملات    الإفراج عن 183 أسيرًا فلسطينيًا ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    ترمب: سأفرض رسوماً جمركية على دول كثيرة    «الداخلية»: ضبط 21 ألف مخالف للأنظمة في مناطق المملكة خلال أسبوع    ترقية م. بخاري في هيئة الإذاعة والتلفزيون    علاجات السمنة ومضاعفاتها تكلف المملكة سنوياً قرابة 100 مليار ريال    الدكتوراه ل«السهلي»    المنتدى السعودي للإعلام يستقطب شخصيات عالمية في نسخته الرابعة    ماتياس: لهذا السبب استبعدت «فيرمينيو»    انخفاض درجات الحرارة ورياح نشطة مثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    تحويل منزل فيروز «القديم» متحفاً في لبنان    أمريكا: العثور على الطائرة المفقودة في ألاسكا ومقتل جميع ركابها    24 مليون مشاهدة تجسد تأثير كريستيانو رونالدو    جون دوران يدخل تاريخ النصر    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    الهلال يُحافظ على سالم الدوسري    جوجل تضيف علامات مائية خفية للصور للكشف عن التعديلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي    ترودو يدعو إلى أخذ تهديد ترامب بضم كندا على «محمل الجد»    إيمري يتطلع للتحدي الضخم بإعادة ماركوس راشفورد لمستواه    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    إنجاز أكثر من 80% من مشروع الطريق الدائري الأوسط في الطائف    تتويج السعودي آل جميان بلقب فارس المنكوس        أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    "تعليم الرياض" يتصدرون جوائز معرض " إبداع 2025 " ب39 جائزة كبرى وخاصة    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باهتمامه التلقائي علَّم نفسه فصار عنواناً لجيل بأكمله
نشر في الرياض يوم 27 - 01 - 2013

إنتاج الأفكار الخارقة من الخصائص الفردية التي لا يمكن تعميمها لا بالتخصص ولا بغيره.. و التطورات والإنجازات في كل المجالات وعلى كافة المستويات تنهض على ثلاثة أعمدة: فكرة خارقة ووفرة مالية كافية وإرادة قوية حازمة..
إن الإنسانية بعد كل ما أهدرت من الأعمار والأعمال والأموال والطاقات في مجال تعميم التعليم النظامي الذي يَقْسُر الأجيال قسراً على التعلُّم الاضطراري سوف تكتشف بأن التعليم القَسْري يدمِّر تلقائية الإنسان وأن هذه التلقائية هي المفتاح الأساسي لقابلياته في الأخذ والعطاء كما أنها سوف تكتشف بأنها مدينة بتطورها في كل المجالات لأفراد نجوا من هذا القَسْر الذي يُغلق القابليات ويطفئ الأشواق الذاتية التلقائية ويطمس الخيال ويكرس الامتثال ويدجِّن الدارسين ويضعهم ذهنيًّا في خنادق معزولة مسوَّرة فطبيعة الإنسان تلقائية فلا تحركها ولا تؤثر فيها المعلومات وحْدها مهما كانت بل إن الإنسان لابد أن يكون مدفوعاً بقيم عميقة مخالطة لنفسه وباهتمامات تلقائية قوية تحركه من داخله إن الإنسان لا يتحرك إلا بدوافع تلقائية تتفاعل في ذاته وتتدفق من أعماقه...
لقد تتبعتُ تاريخ التحولات الحضارية على امتداد العصور وتاريخ العلوم وتاريخ الاختراعات وتاريخ الإبداعات في مختلف المجالات فخلال سنوات طويلة قمت باستقراء واسع وشامل قدر الإمكان فوجدت أن أكثرية الرواد والمبدعين والمخترعين وقادة الفكر والفعل كانوا عصاميين بنوا أنفسهم بأنفسهم فقد كانوا من ذوي الاهتمام التلقائي القوي المستغرق من أمثال فراداي ودالتون ومندل وليفنهوك وجيمس وات وماركوني والأخوين رايت وأديسون وفورد وبل قيتس وستيف جوبز ومن لا تتسع المساحة المتاحة هنا لذكرهم...
وحين نقرأ تاريخ الازدهار الأمريكي نجد أنه نهض بواسطة أمثال هؤلاء العصاميين الذين حافظوا نسبيًّا على نقاء فردياتهم فلم يتعرضوا إلا لأقل قدر من التنميط فعبَّأوا قابلياتهم المفتوحة وبنوا قدراتهم بالمواجهة المباشرة مع المشكلات فتدفقت كوامن نفوسهم باستبصارات خارقة وفاضتْ بمهارات عالية ويأتي في الطليعة هنري فورد الذي تحرر من التنميط المدرسي فعلَّم نفسه باهتمام تلقائي قوي مستغرق لقد واجه مبكراً صعوبات الحياة بعقل مفتوح وإقدام وأمل وثقة فأنضجتْه وطوَّر ذاته بالعمل الشاق والمثابرة الذكية والانفتاح الحر فصار من أقدر الرجال الذين قادوا التنمية في الولايات المتحدة الأمريكية ثم امتد تأثيره إلى كل العالم وقد هيأه لهذه المرونة في التفكير وتنويع التجارب والإقدام الجريء أنه لم يتعرَّض للتنميط المدرسي والأكاديمي فبقي مفتوح القابليات حُرَّ التفكير منطلق الخيال متعدد الخيارات لاتُقَيِّده أفكارٌ مسبقة ولا تحدِّد خياراته خنادق ذهنية عازلة مسوَّرة ولا تطفئ خياله مسلَّماتٌ نهائية ولم يتبرمج بعادة الانقياد الأعمى والترديد البليد وإنما كان يتحرك باندفاع تلقائي واثق في أي اتجاه يلوح له أنه يناسبه ويميل إليه ويجد ذاته فيه فتنمو معارفه وتنضج تجاربه ويتسع خياله وتتنوع مجالات الاختيار في نفسه...
إن تَحَرُّر عقل هنري فورد من التنميط المدرسي وسلامته من التحديد الأكاديمي هو الذي هيأه للانطلاق الواثق والإقدام الجريء وكان يؤمن بأن تصورات الإنسان عن نفسه هي التي تُقَيِّده وتشلُّ إرادته وتعطل قابلياته أو بالعكس هي التي تمنحه القدرة على الاختراق واقتحام المجهول والتحليق في الآفاق والقدرة على الابتكار وإطلاق الخيال في كل الاتجاهات والإحساس بتنوع الخيارات والنظر إلى الأُفق الأبعد والاستعداد لتحقيق الأهداف مهما كانت بعيدة المنال فهو الذي كان يقول:(( إذا اعتقدتَ أنك قادرٌ أو أنك غير قادر فأنت مُحقٌّ في كلتا الحالتين)) إن طاقة الإنسان واتجاه سيره وإقدامه أو إحجامه مرهونةٌ كلها بتصوره عن ذاته فإذا كان واثقاً من نفسه ويتجه للهدف بعزيمة وتصميم وإقدام فسوف يبلغ الهدف مهما كان عالياً وبعيداً أما إذا كان متردداً هيَّاباً يتصور أنه عاجزٌ عن تحقيق أهدافه فسوف يبقى هامشيًّا عاجزاً فنشاطك محكومٌ برؤيتك عن ذاتك إيجاباً أو سلباً لذلك كان قادة المجتمعات في شتى المجالات من ذوي الإقدام والجرأة الذين بنوا أنفسهم بأنفسهم ولم يتطبَّعوا بالانقياد الأعمى والامتثال البليد وكما يقول هنري براندون في كتابه (هكذا نحن): ((استطاع رجالٌ من أمثال هنري فورد أن يستأثروا بخيال الناس في جميع بقاع الأرض)) إن تاريخ أمريكا المعاصرة قد ارتبط باسم هنري فورد وأمثاله من الرواد العصاميين لذلك نجد المؤرخ الأمريكي البروفيسور نيل بالدوين يستغرق الكثير من جهده العلمي في الكتابة عن هؤلاء الرواد الأفذاذ فيخصُّ هنري فورد بكتاب كامل كما يخصُّ أديسون بكتاب آخر كما يخصُّ وليم كارلوس وليمز بكتاب ثالث وهو طبيبٌ أمريكي استغرقه الأدب فعرفه الناس بإبداعه الشعري ولم يهتموا بمجال دراسته لأنه مجالٌ مهنيٌّ رتيب لايثير الاهتمام إلا حين يخترق الإطار ويحقق إنجازات إبداعية وهنا يكون قد تجاوز نطاق التخصص المهني الضيق وانطلق في المجال الإبداعي الفسيح...
إن هذا المؤرخ الأمريكي (هنري بالدوين) المهموم بتحديد معالم الثقافة الأمريكية يرى أن تاريخ أمريكا يجري في مسارات شقَّها هؤلاء الرواد العصاميون فيقول في كتابه(القيم الأمريكية): ((لقد انشغلتُ على مدى سنوات في وضْع سِيَر مجمعة لحياة أمريكا الحديثة وقد ذكرتُ في كتب سابقة لأربع شخصيات مركَّبة ومرموقة من الذين ساهموا في حياتنا المعاصرة وقد كانت كتبي عن توماس إديسون وهنري فورد ووليم كارلوس وليمز ومان راي.. إن الفهم الأكبر لقيمة التاريخ المشترك يُمَكِّننا من مواجهة المستقبل بذكاء)) فهذا المؤرخ يَعتبر أن هؤلاء الخارقين هم الذين شكَّلوا الثقافة الأمريكية المزدهرة بما تتميز به من فردية وإقدام ومغامرة وأن على الأجيال أن تستلهم من هؤلاء الخارقين الثقة بالنفس واقتحام المجهول ومتابعة الحلم بما هو أفضل وأجمل وأكمل...
في النصف الأول من القرن العشرين طغتْ مكانةُ هنري فورد وشهرته على مكانة وشهرة الرئيس الأمريكي مما جعل الرئيس تيودور روزفلت يشكو من أن سطوع فورد قد حجب شهرة الرئيس وقد عرف الناس هنري فورد عن طريق اختراعه للسيارة وابتكاره طريقة الإنتاج بالجملة وهو مايعرف بخط التجميع أو خط الانتاج بالجملة فالاختراع الأول حقق طفرة هائلة في وسائل النقل الآلية أما الابتكار الثاني فحقق طفرة عظيمة في كثافة الإنتاج وكلاهما يمثل تطوراً نوعيًّا في الحياة الإنسانية لكن إسهاماته تجاوزت ذلك كثيراً فقد تنوعت لتمتد إلى مجالات متباينة كمحاولة إنتاج وقود السيارات من نفايات النباتات ومن النباتات ذاتها كبديل للبنزين والديزل كما بذل جهوداً كبيرة لتنويع مصادر دخل المزارعين وميكنة الزراعة...
في كتاب (التكنولوجيا والثقافة) وهو كتابٌ عميق ودقيق وثري كتبه مجموعةٌ من العلماء والباحثين وقد كتَبَ المؤرخ البرفيسور رينولد ميلارد ويك فصلاً بعنوان (عِلْمُ هنري فورد وتكنولوجيته في خدمة الريف) فالناس عرفوه باختراع وإنتاج سيارة فورد لكنه قدَّم للريف الأمريكي الحراثة التي أسهمت في التنمية الزراعية فكان تأثيره عظيماً أيضا في المجال الزراعي يقول المؤرخ ويك: ((أثَّر هنري فورد تأثيراً عميقاً في الحياة الريفية في أمريكا في النصف الأول من القرن العشرين فأصبح بطلاً شعبياً وقديساً دنيويًا بين قوم ينظرون بعين الإعجاب والتقدير إلى الرجل العصامي)) وهنا لابد من التوقف أمام ظاهرة احترام الأمريكيين للعصاميين فهم يحيطونهم بالإعجاب الشديد والاحترام البالغ ويقتدون بهم ويستجيبون لأفكارهم وهذا من أهم أسباب تطورهم فالاستجابة للرواد أهم من الريادة ذاتها فالمجتمع الأمريكي من أسرع المجتمعات استجابة إيجابية لرواده وبهذا التكامل العضوي بين الريادات الفردية الخارقة والاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية حقَّق المجتمع الأمريكي هذا الازدهار الباهر المطرد فالأمريكيون يبهرهم العصامي الذي يبني نفسه بنفسه ويحقق إنجازات لا يحلم بها حاملو الألقاب الفارغة لقد قارنوا فورد بالرئيس الأشهر ابراهام لنكولن واعتبره كثيرون منهم من أبرز صانعي التاريخ الأمريكي وكان اسمه عنواناً لفترة تاريخية حاسمة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يطلق عليها اسم (الفوردية) وقد ذكرتْ عنه إحدى الصحف الأمريكية بأن اسمه أشهر من أي تعريف فلا يحتاج المرء إلى أن يُعَرِّف به أو ينوه عنه...
إن الناس في كل العالم حين يسمعون عن فورد يتذكرون (سيارات فورد) لكن المؤرخ ويك يبين الكثير من إسهاماته الأخرى فيقول: ((لاشك في أن أعظم إسهام لفورد في مجال تطبيق التكنولوجيا على الزراعة الأمريكية إنما يكمن في إصراره على أن القوة الميكانيكية يجب أن تحل محل القوة الحيوانية في المزرعة)) ويقول: (( لقد جعل النموذج T أمريكا تدخل عصر المركبات وأصبح هذا العمل أعظم ظاهرة اجتماعية في الشطر الأول من القرن العشرين)) إن أكثر الناس حين يرد ذكْر فورد تخطر في بالهم صورة رجل أعمال محظوظ مغامر مثل كارنجي وروكفلر ويغيب عن أذهانهم أن فورد مخترعٌ باهر وإداري محنَّك وصاحب رؤى تنموية واجتماعية رائدة ورجل أعمال حقَّق نجاحات مدهشة في عدة مجالات وكانت له رؤية إنسانية عظيمة تتجاوز الصناعة والتنمية والمال وتمتد خارج وطنه إلى كل العالم وكان تأثيره عظيماً في الثقافة الأمريكية...
وكما كتب ويل روجرز فإن فورد: ((غيَّر من عادات الناس أكثر مما حقق قيصر وموسيليني وشارلي شابلن وبرناردشو)) أي أنه في نظر روجرز أشد تأثيراً في تفكير الناس وسلوكهم من السياسيين والكُتَّاب وامتدَّ نشاط فورد إلى البرازيل حيث الغابات الواسعة الكثيفة من أجل استخلاص وقود المحركات من النباتات وكذلك من أجل إنتاج المطاط وكما يقول ويك: ((وهنا تعلَّم علماء فورد أن بوسعهم تمهيد الأرض وبناء المستشفيات والسيطرة على الأمراض وإقامة مشروعات الصرف والتبريد ولكنهم لم ينجحوا تماماً في زراعة شجر المطاط)) لقد كان فورد متنوع الاهتمامات فعمل على توطين وتوسيع إنتاج فول الصويا وهو كما يقول ويك: ((الذي أكسب فورد أفضل فرصة لتطبيق العلم والتكنولوجيا على مهنة الزراعة)) كما كان له فضل الاهتمام بصناعة اللدائن(البلاستك) وإبرازه كبديل للحديد في صناعات كثيرة كما كانت له آراء رائدة في ضرورة إبعاد المصانع عن المدن لتنمية الريف من ناحية وتقليل الازدحام في المدن وإبعاد مصادر التلوث من ناحية أخرى ويختم ويك بحثه عنه بقوله: ((إن آراءه عن التكنولوجيا وميكنة الريف الأمريكي كانت آراء مستنيرة وتقدمية وسابقة لزمانها بوقت كبير))
إن هنري فورد كان صاحب عقل مفتوح وكانت اهتماماته متنوعة وكان متعدد المواهب وكان مقداماً وكان يؤمن بأن على الإنسان أن لا يتردد وأن يندفع لتجسيد أفكاره وتحقيق أمانيه فلا نجاح دون إقدام فكل الإبداعات الرائعة وجميع الإنجازات العظيمة بدأت بأفكار وتحقَّقَتْ بالجرأة والمغامرة والجهد الكثيف وعن ذلك كتب عالم النفس الأمريكي هارولد فينك يقول: ((لقد كنتُ شابًّا أعيش في ديترويت عندما كان هنري فورد يحاول أن يبدأ صناعة السيارات وكل ما كان يبغيه هو أن يجعل عربةً تسير بالبنزين وكان في تصوره أن مجرد صنع بضع سيارات سيكون خيراً له من العمل كميكانيكي في شركة إديسون وكانت أولى خطواته أن يصنع سيارة تتحرك وكانت خطوته الثانية أن يبيعها ثم يصنع غيرها)) إن هذا العالم يَعتبر فورد مثالاً للعصامي المبدع فيوضح كيف أن طموحاته لا تقف عند حد فقد تمكَّن من أن يبني امبراطورية صناعية لكنه لم يكتف بذلك بل امتد نشاطه لمجالات متنوعة واسعة عظيمة فيقول: ((إنه لم يتخيَّل نفسه يشتري مناجم الحديد ويبني مصانع الحديد والسكك الحديدية والخطوط الملاحية وإنتاج مليون سيارة كل عام)) إن هذا العالم يسجِّل هذه الحقائق ليؤكد أن العلم ومهارة الأداء وقدرة الإنجاز ليست معلومات يتجرعها الدارسون قسراً من غير اهتمام ذاتي تلقائي ولا هي شهادات مزركشة خاوية وخادعة ومُنيمة وإنما هي فكرٌ خلاَّق وخيالٌ خفِّاق واندفاعٌ صادق وإيمانٌ عميق بأن الأهداف مرهونةٌ بالإقدام والانفتاح والجهد المنظَّم الموصول والجَمْع أو المراوحة بين الانتظام للإنجاز والاقتحام للإبداع...
إن إشراقات تجارب هنري فورد ملهمة لمن يبحثون عن النماذج المضيئة وهي إشراقاتٌ لاتنتهي ففي تجاربه مايؤكد أن المهم في أي مشروع هو الفكرة المبدئية أما التنفيذ فأمرٌ مرهونٌ بالإمكانات المادية فقط فحين يتوفر المال ويقرر المسؤول الإداري أو السياسي إنجاز أي مشروع نابع من فكرة خلاقة وهو يملك المال الكافي فإن الكوادر من مختلف التخصصات سوف تعمل بشكل روتيني حتى تنجزه فالمهم هو ولادة الفكرة وخَلْق الاتجاه وعلى سبيل المثال فإن هنري فورد بلْور في ذهنه فكرة اختراع محرك(8) سلندرات وكان مقتنعاً أن ذلك ممكن وكان مؤمناً بأن هذا التطوير في المحرك سوف يكون حاسماً في المنافسة ولكن المهندسين والمصممين في المصنع أكدوا له استحالة ذلك وعند إصراره حاولوا تنفيذ الفكرة ثم عادوا إليه مؤكدين الاستحالة ولكنه واجَه تأكيدهم بتأكيد مضاد وحازم وتكرَّر الجدلُ بين ادعاء الاستحالة من المختصين والإصرار منه على الإمكانية وكانت النتيجة صحة موقف فورد وخطأ المهندسين فتحقق تطوير المحرك بالشكل الذي تصوَّره فورد وهنا صدقتْ مقولته التي تنبض بأحْفَل المعاني وأجل النتائج حيث كان دائماً يقول: ((إذا اعتقدتَ أنك قادرٌ أو أنك غير قادر فأنت مُحقٌّ في كلتا الحالتين)) فمن يتصور الاستحالة يبقى محكوماً بتصوُّره فيظلُّ عاجزاً لأن فكرة المحال تسيطر على ذهنه وتعطل احتشاد طاقاته وتعرقل جهده وتشلُّ إرادته وتمنعه من المحاولة أما الذي تتجسَّد في عقله الفكرة وكأنها قد صارت حقيقة ناطقة فإن مخزون اللاوعي وحضور الوعي وطاقاته الذهنية والوجدانية والحركية تتشابك وتتعاضد للوصول إلى الحل وتحقيق الإنجاز لذلك كان فورد يقول: ((إنني أبحث عن الذين لايعرفون معنى المستحيل)) فالنتائج مرهونةٌ بتصوُّرنا عن أنفسنا وتصوُّرنا عن الممكن والمحال...
إن إنتاج الأفكار الخارقة من الخصائص الفردية التي لا يمكن تعميمها لا بالتخصص ولا بغيره إن التطورات والإنجازات في كل المجالات وعلى كافة المستويات تنهض على ثلاثة أعمدة: فكرةٌ خارقةٌ ووفرةٌ مالية كافية وإرادةٌ قوية حازمة وهنا نكون أمام إجابة مقنعة لحل مشكلة شائعة في العالم العربي وهو الخلط بين المعرفة النظرية والأداء العملي وهما حقلان مختلفان نوعيًّا لكننا نخلط بينهما خلطاً أربك الأداء كما نخلط بين العمل الإداري والتخصص المهني فلقد اعتدنا مثلاً أن مديري المستشفيات والإدارات العامة للشؤون الصحية لابد أن يكونوا أطباء وهذا خطأٌ وخلطٌ لابد من التخلي عنه بل لقد بلغ الإمعان في الخطأ والخلط إلى أنْ توهَّمنا أن وزير الصحة لابد أن يكون طبيباً وأن وزير الصناعة لابد أن يكون مهندساً وهو تصوُّر خاطئ يتنافى مع خاصيَّة القدرة الإدارية والغريب أننا لانستفيد من تجارب الأمم المزدهرة حيث ينتقل شخصٌ من مدير شركة أو مصرف أو ممثل ليصير وزيراً للدفاع أو الصحة أو حتى ليكون رئيساً للجمهورية إن فكرة التخصصات طارئة على ثقافتنا فطبقناها تطبيقا خاطئاً أحبط ذوي الكفايات القيادية واستبدلهم بمن لا يملكون هذه القدرة فاكتسب هذا التطبيق الخاطئ بمرور الوقت رسوخاً شديداً فصار ثقافة سائدة وبذلك أصبحنا محكومين بتصورات ذهنية خاطئة وبعادات إدارية واجتماعية غير سليمة مربكة للأداء ومُعَطِّلة للكفايات وتُسند الأمر لغير القادرين إداريًّا حتى وإن كانوا ماهرين طبيًّا...
إن الطبيب قد يكون إداريًّا ناجحاً بل قد يقود وطناً بأكمله وتحرير أمة تمثل خُمس عدد سكان الأرض كما فَعَل الطبيب صن يات صن في الصين أو الطبيب مهاتير محمد في ماليزيا أو الطبيب جورج كلنمصو في فرنسا وغيرهم وقد يكون الطبيب كاتباً مبدعاً مثل تشيخوف ويوسف إدريس وعبدالله مناع وإبراهيم ناجي ومحمد كامل حسين وغيرهم أما الشيء الخاطئ فهو الخلط بين العمل الإداري والتخصص المهني فإدارة المستشفيات هي عملٌ إداري وليست عملاً طبيًّا إن الفصل النوعي بين المجالين هو السائد في المجتمعات المزدهرة ولكننا مازلنا نتعثِّر في التعامل مع أبجديات العصر وما يقال عن خطأ إسناد الأعمال الإدارية في المؤسسات الصحية للأطباء يقال أيضا عن تخصصات أخرى مثل التخصصات الهندسية المتباينة فالعمل الإداري عملٌ قيادي وهو نوعٌ رفيع من الأداء خاصٌّ واستثنائي فالقدرة الإدارية لا تُكتسب بأي تخصُّص حتى الأستاذ الجامعي في علم الإدارة لن يكون إداريًّا ناجحاً لمجرد التخصص مالم يكن يملك قدرة قيادية تكون هي أساس النجاح وليس التخصص النظري إن القدرة الإدارية امتيازٌ مختلف كليا عن التخصُّص ومعلوم أن الأداء في كل أنواعه وجميع مجالاته يختلف نوعيٍّا عن المعرفة النظرية...
لا أكتب عن هنري فورد كشخص وإنما أكتب عنه كمثال للنجاح العصامي الباهر فقد علَّم نفسه بنفسه وبنى قدراته بذاته وأبدع في مجالات عظيمة متنوعة وصار عنواناً لجيل بأكمله ولكن لو ظَهَرَ في غير المجتمع الأمريكي الذي يحترم العصاميين ويستجيب للرواد لربما بقي عاملاً كادحاً لايكاد يكسب قوت يومه أو يُمضي حياته حارساً لعمارة أو مدرسة أو بنك...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.