في هذه الأيام يتجه المسلمون إلى بيت الله الحرام في مكةالمكرمة؛ ليذكروا اسم الله في أيام معدودات ويشهدوا منافع لهم، وهذا ما أشار إليه سبحانه في قوله عز وجل: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ». وهذه الآية تشير صراحة إلى ان الله دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم تتضمن ذكر الله وتوجه القلوب والعقول إليه والاخلاص في العبادة له وحده، هذا إضافة إلى المنافع الدنياوية التي أشارت إليها الآية الكريمة تتضمن التعارف والتآخي والتضامن وتبادل المنافع الاقتصادية والتعرف إلى التاريخ الإسلامي، ومراحل تطور الدعوة النبوية عبر مراحلها المختلفة من الدعوة في السر إلى الدعوة في العلن، إلى الهجرتين، وصولاً إلى قوة الإسلام ومنعته، وتحقيق الانتصارات المتوالية حتى فتح مكة وما تلاها من انتشار للإسلام واتساع رقعته. * إذاً الحج يشتمل على تحقيق الركن الخامس من أركان الإسلام، في أيام معدودات هي عشر ذي الحجة، وأيام التشريق الثلاثة. * قبل تلك الأيام المعدودات وبعدها يمكن للحجيج تبادل المنافع الاقتصادية من بيع وشراء، وعقد اتفاقيات اقتصادية، وقبل ذلك وبعده اخلاص النية عند القدوم إلى الحج. * للاستفادة من وجودهم في الأراضي المقدسة للقيام بجولات سياحية للمعالم والآثار الإسلامية في مكةالمكرمة والمدينة المنورة وغيرها، وإذا سمحت لهم الظروف الاقتصادية التوسع في ذلك إلى أماكن ومعالم أخرى. وعليه يمكن استعراض كل فعالية من تلك الفعاليات على النحو التالي: أولاً: المنافع الدينية: مع أن الحج هو آخر أركان الإسلام، إلاّ أنه خلاصة جامعة لكل تلك الأركان حيث تجتمع فيه كل مقومات الدين الحنيف. لذلك يعد الحج مؤتمراً إسلامياً يتكرر كل عام، ويصل عدد المشاركين فيه إلى أكثر من ثلاثة ملايين حاج وحاجة، حيث يعيش الجميع في أجواء روحانية وطمأنينة وانسجام تام، وتوحد في الأداء والتوجه والحركة، والمقصد واللباس والمكان والزمان، والاخلاص لله سبحانه وتعالى، وطلب المغفرة والرزق والنجاح، ومن المعروف أن للحج دروساً وعبراً وأسراراً عظيمة بعضها ظاهر ومشاهد، وبعضها علمه عند الله ولعل من أعظم مظاهر الحج المهيبة: - الوحدة العامة في أداء النسك والتنقل بين المشاعر طاعة لله، واستجابة له، وتحقيقاً للركن الخامس من أركان الدين الحنيف، مع إخلاص النية في ذلك. - فيه تظهر المساواة وتذوب الفوارق، وتنبذ الخلافات، وتتساوى فيه الأجناس والأعراق، وفيه تزول الفروق بين الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والحاكم والمحكوم، فالكل على صعيد واحد بلباس موحد، متجهين إلى إله واحد؛ طلباً للرحمة والمغفرة والرضوان. - في الحج يتم التذكير بيوم القيامة ويوم الحشر، والتذكير بأن الدنيا فانية، وأن العمر قصير مهما طال، وعليه يجب أن يزول الغرور ويعرف الإنسان قدره وحدوده. - وفود الحجيج تتجه إلى مكة من جميع أصقاع الأرض وهي تردد هتافاً واحداً، تلبي فيه نداء الحج بخشوع «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك»، وهذا النداء فيه توحيد للخالق سبحانه، وانقياد له بالطاعة المطلقة، والاستسلام التام والذكر والشكر، والتوحيد والتمجيد. - إذاً مناسك الحج تعلم الناس النظام والترتيب والدقة والمتابعة والموالاة والطاعة. - في الحج يتعارف المسلمون بعضهم إلى بعض، ويتنافسون في التقوى ويتسابقون إلى الخيرات طلباً لمغفرة الله، وكسباً لرضوانه، ورغبة في دخول جناته. - في الحج يتوحد الناس ويبتعدون عن كل أسباب الخلاف والاختلاف مثل: الجدل، وهذا فيه تجاوز للذات، واستجابة للتوجيه الرباني بقوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ». - للحج مظاهر خلابة، فحركة طواف الناس حول الكعبة - في جميع الأوقات، أثناء أداء العمرة بصورة عامة، وفي موسم الحج بصورة خاصة - تشبه حركة الكواكب حول النجوم، والإلكترونات حول النواة في تناغم تام ودوران عكس عقارب الساعة، وكل ذلك يشير إلى وحدة الكون ووحدانية خالقه. ثانياً المنافع الاقتصادية: إن إخلاص النية عند القدوم إلى الحج أساسي، فالإخلاص شرط في جميع العبادات، وبعد ذلك لا حرج على الإنسان أن يبتغي فضلاً من الله بالتجارة والصناعة والسياحة والتعلم وغيرها، هذا وقد وردت كلمة منافع في آي الأمر بفريضة الحج السابقة الذكر («وأذن» في الآية نكرة للتعظيم والتكثير، ويمكن ان تكون للتنويع، ويدخل في ذلك المنافع الدينية والدنياوية وهكذا حملها جماهير المفسرين). وقد أشارت التقارير الاقتصادية والإعلامية إلى ان حجم عوائد الحج خلال موسم الحج الماضي تقدر بنحو (25) مليار ريال، وإذا أضيف إلى ذلك عوائد العمرة فإن الرقم قد يقفز إلى الضعف، وبعد انتهاء التوسعة الجارية للمسجد الحرام والمطاف وتوسعة المسجد النبوي والخدمات المساندة ووسائل المواصلات سوف يتضاعف ذلك الرقم عدة مرات، أما إذا تم الاتجاه إلى تنشيط الصناعة الوطنية وتشجيعها للوفاء بمتطلبات الحجيج من هدايا وسلع ومنتجات فإن عوائد الحج والعمرة سوف تقفز إلى عنان السماء فضلاً عن إقامة بعض الفعاليات الاقتصادية والصناعية التي تنفع البلاد والعباد، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: * إقامة معرض للصناعات الوطنية على مساحة كبيرة تعرض فيه جميع ما تنتجه المملكة من منتجات صناعية أو زراعية أو حرفية أو تراثية أو تشكيلية أو فنية وغيرها، ويمكن الحجاج من زيارتها وإمكانية الشراء منها. * إقامة منطقة صناعية قريبة من مكةالمكرمة تقوم بانتاج متطلبات الحجاج من ملابس وسجاد وتحف وهدايا ومجوهرات ومخطوطات ورسومات تحمل بصمة الأراضي المقدسة فضلاً عن تجميل تلك المنتجات بكلمات من لغات الشعوب الإسلامية. * تشجيع دور النشر على إنتاج كتب ومجلات ومطويات وصور تهتم بالحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة والآثار التاريخية بلغات الشعوب الإسلامية، فضلاً عن توفير الكتب الدينية والتفاسير وكتب الحديث بتلك اللغات. * تشجيع مراكز التصوير على خدمة الحجاج، فكم من حاج يحبذ توثيق زيارته للمشاعر المقدسة بالصوت والصورة. * إقامة معرض في مكةالمكرمة والمدينة المنورة يشبه في تركيبته معارض الجنادرية يتم من خلاله تعريف ضيوف الرحمن بالمملكة العربية السعودية خادمة الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين وحاملة الهم الإسلامي والمنافحة عن قضاياه. ثالثاً: المنافع السياحية: جميع الدول تسعى إلى جذب السياح؛ لأن صناعة السياحة تعد من أهم مصادر الدخل المتجددة وكل منها يسعى في إيجاد بنية تحتية وفوقية جاذبة وعمل دعاية لوسائل جذب مختلفة من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من السياح. والسياح يذهبون لوجهات مختلفة تلبي رغبة كل منهم، فمنهم من تجذبه الطبيعة، ومنهم من تجذبه الآثار، ومنهم من تجذبه المواقع التاريخية، ومنهم من تجذبه الأسواق، ومنهم من تجذبه الأجواء المعتدلة، ومنهم من تجذبه المشاعر المقدسة.. وبلادنا غنية بكل نوع من تلك الوجهات خصوصاً الدينية والآثار ذات العلاقة بها فضلاً عن أن المملكة تستقبل أكثر من ثلاثة ملايين حاج وحاجة سنوياً، وأكثر من ذلك العدد بكثير في مواسم العمرة. ومن المتوقع أن يتضاعف ذلك العدد بعد الانتهاء من توسعة الحرمين الشريفين والمطاف وعليه يحسن: * فتح الباب أمام المعتمرين على مدار العام، على أن يتم ذلك من خلال مكاتب متخصصة تتكفل بجميع تكاليف العمرة للقادمين من خارج المملكة. * عدم التعجيل برحيل الحجاج طالما أنهم قادرون على تحمل تكاليف إقامتهم أو وجود جهة تتكفل بذلك، ومد فترة بقاء الحجاج إلى أطول مدة ممكنة. * تشجيع المستثمرين في مجال السياحة لتنظيم رحلات سياحية للحجاج قبل موسم الحج المتمثل في الأيام المعدودات المتمثلة في عشر ذي الحجة وأيام التشريق، أو بعد ذلك الموسم وذلك للتعريف بالمواقع والآثار الإسلامية المشهورة مثل: غار ثور، وغار حراء، وجبل أحد، وموقعة بدر، وغيرها مع إعادة تأهيل تلك المواقع لاستقبال الزوار وإقامة مراكز توعية بجانب تلك المواقع تكون مهمتها توعية وإرشاد الزوار للجوانب العقدية، وأن تلك المواقع لا تعدو سوى آثار تاريخية ليس لها قدسية معينة. * السماح للمكاتب السياحية الموثوقة والمعتبرة بتنظيم رحلات سياحية للحجاج والعمّار إلى مناطق أخرى من المملكة مع التزام تسفيرهم بعد انتهاء مدة زيارتهم وإقامتهم. * قيام الهيئة العليا للسياحة والآثار بوضع التنظيمات الخاصة بذلك، والعمل على ايجاد البنية التحتية والفوقية التي تلبي متطلبات موسم السياحة الذي يسبق موسم الحج، أو يأتي بعده، وذلك مثل تهيئة الأماكن المحيطة بتلك المواقع التاريخية، وإزالة العشوائيات المحيطة بها، وتوفير وسائل الراحة الممكنة مثل: المطاعم ودورات المياه والمرشدين السياحيين ووسائل الجذب الأخرى وطلب مؤازرة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لإيجاد مراكز توعية بجوار تلك المواقع وتزويدها بمرشدين على قدر من الوعي والعلم والمرونة. نعم إن مواسم الحج والعمرة يمكن أن تجمع بين المنافع الدينية وهي الأساس والمنافع الدنيوية للحاج فهو سوف يضرب عصفورين بحجر واحد وهما أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وبعد ذلك التحول إلى سائح يتعرف عن كثب إلى تاريخ الإسلام وآثاره في كل من مكةالمكرمة والمدينة المنورة، وما بينهما وغيرها، كما أنه يعود بالنفع على كل من يعمل في خدمة الحجاج، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو شركات أو فنادق أو مطاعم أو حتى باعة متجولين، فضلاً عن أن ذلك سوف يفتح فرص عمل جديدة وكثيرة أمام الشباب، وبالتالي يصبح للحج - إضافة إلى فوائده الدينية - فوائد اقتصادية أكبر تنعكس إيجاباً على كل من الحاج وأهل البلد المضيف.. والله المستعان.