لا تغادر القصيدة زمنها إلا حينما تكتب غدها وتستوفي صمتها، وتستدلّ على حضورها باختلافها...فالشعر إرثٌ إنساني مستمر يتجدد ويتبدّل وتتغير ملامحه وتقنياته وأدواته بتجدّد الحياة وأدواتها.. فالارتهان إلى الماضي فيه استهلاكية لاتتسق مع كونه البهيّ ومراجعاته المستمرة للوجود وتفاعلاته، كذلك انقطاعه عن أمسه غربة فيه منه.. وبينهما يظل استسهاله برهنه إلى مهارات لغوية أو غنائية تقلل من نبوءته وتأخذه إلى مهارات لغوية مجرّدة لاتليق به.. القصيدة التي تعرفني ولا أعرفها تخرج من بين تجاويف الليل في السماء بين نجمة وأخرى.. من آثار الراحلين.. من العصافير التي غادرت طفولة شاعرها بعد أن أصاب ذاكرته الجفاف، من عيون أمي التي سئمت من الضوء..من فقّاعة الشمس التي تمنحني ظلّي..هكذا ببساطة لايكون الشاعر إلا منكم ولا يتحدث إلا عنكم ولا يتخلّق إلا بكم.. ساعات شعره لاتشبهكم لكنها لاتأخذه بعيدًا عنكم، وأحلامه لاتراوغكم لكنها تحاول أن تكون ما تحبون... الشاعر ليس زعيمكم ولا خطيبكم ولا واعظكم ولا مرشدكم.. إنه هكذا بينكم يدهس الظلال مثلكم حينما تزدحم الشمس في الشوارع، ويتكئ على جدرانكم حينما تدفعه ظلاله إليها.. يصدقكم حين يكذب، ويكذب كي يصدقكم هكذا..هكذا غالبا ما يكون حالة من الالتصاق مع الوجود بدعوى البحث فيه عن الحقيقة التي تندغم بها الذات، وتمتزج فيها الرؤيا، ويعانقها التذكّر، فهي تسكن الشمس في الصباح، والمطر في تردّده، والكلام في شهقته، والعصافير في انتفاضة ريشها للغيم، والمدينة بساكنيها، والأغنيات بزمنها، والعطر بنسائم التذكّر،، والظلال بمرافقتها..هكذا ببساطة لايكون كل ذلك إلا وهو في حالة شعر وهي حالة لاتهب نفسها كثيرا له حينما لايكون إلا آخر يشبهكم حيثما لاتشبهونه ويحبكم أكثر مما تحبونه...إنه ذلك المسكون بالذكرى والمنذور للتاريخ.. نبوءته حنين وبكاؤه شجن، وغناؤه مسافة بين مامضى وما يكون.. يرتدي ثياب اليوم ثم يتعطّر بأمسه حينما يهم بالخروج إلى غده.. هكذا ليس إلا وطن ذاته حيثما يتسع لكم جميعا، وشمس يومه حينما يفترض أن ظلاله غيمة، وخطوته سفر، ووقوفه انتظار مالا يُنتظر حتى يعدنا بالمجيء.. وعندها يموت ليخلد فيكم... *** ذلك هو الشاعر وتلك هي القصيدة التي لا أعرفها قبل أن ألتقيها، ولا أعرّف بها إلا بحضورها..فهي شمس بلا سماء وليل بلا توقيت..مدينةٌ من الملح والسكر يرمي الناس فيها نفايات أوجاعهم وتواريخهم على أرصفة الظلال..! هكذا بلا هويّة ولا تاريخ ميلاد محدّد ولا حتى زمن لاتكون فيه.. هي شيء لاتعرفه قبل أن يكتمل ولا تستكشفه قبل أن تحياه ولاتصدّقه غواية إلا حينما يفضح هواجسك ويأخذك رغما عنك إلى مايريد هو لاماتريد أنت.. تحضر في الغياب حتى حينما تغيب في الحضور..تتمدّد بامتداد خارطة الإنسان على الأرض فهي تعبيره الأول، وإيماءة الوجود له حينما يخصّه بها.. إنها شجرة الذاكرة التي تجتمع غصونها على الخضرة والظلال معا أيّا كانت ثمرتها.. ثم لايعتريها الذبول..!