يتملّكك العجب حين تعرف أن روائياً وسيميائياً بحجم أمبرتو إيكو يتوقّف عن كتابة روايته "اسم الوردة" لمدة سنة وعلى الأقل سنتين بالنسبة لرواية "بندول فوكو" والفترة ذاتها في رواية "جزيرة اليوم السابق" وذلك لأنّه كان يقرأ ويرسم خطاطات وكان-بحسب قوله- يخترع عالماً، وكان على هذا العالم أن يكون دقيقاً جداً لكي يتحرّك داخله بثقة مطلقة، فيقول إنه في "اسم الوردة" رسم العديد من المتاهات وتصاميم لأديِرة استناداً إلى أماكن زارها، ذلك أنه كان يود أن يشتغل على كل شيء وكان يود أن يعرف المدة الزمنية التي تستغرقها تنقُّل شخصيتين من مكان إلى آخر وهما تتجاذبان أطراف الحديث!. دارت في ذهني هذه الدّقة والحرص والدأب من إيكو وأنا أتصفح بشكل سريع أعمال الكاتبة بثينة العيسى التي تجاوزت خمس روايات -وهي أعمال لم تُمكّثها في مختبر التجربة والذائقة بشكل كافٍ- الأمر الذي جعلها تظهر بهذا التهلهل والرخاوة السردية وعدم النضج. ورغم أن بثينة العيسى تحاول أن تطوّر تجربتها وتقدّم شيئاً ذا بال متّكئة في ذلك على لغة لا بأس بها وقراءات متنوعة إلاّ أن ذلك لم يمنع من تهاوي تلك الأعمال الكثيرة عدداً قياساً بعمر الكاتبة وتقارب تواريخ إصداراتها، سيما وأن تراكم الكتابة والخبرة يجب أن يرافقه نمو في التجربة وتطور في الأدوات. لكن المتتبع لتلك الأعمال بدءاً من "سعار" التي لم تكن رواية بالمعنى الحقيقي وإنما حوارات جرى تمطيطها بشكل مضجر وغير مستغرب لمن شهد بدايات بثينة العيسى وهي تكتب في موقعها أو بعض المنتديات النشطة كجسد الثقافة حيث إنها قلم يميل للانهمار السردي بشكل كثيف الأمر الذي حسّن من لغتها كثيراً لكنه تحسُّن لم يرتقِ بنصوصها أو بمعنى أصح لم يكن من القوة والكفاءة الأدبية بما ينهض بعبء حمل رواية ذات مضامين فكرية وإنسانية ووجودية بل كان عملاً أشبه بنص مفتوح استعانت فيه بجَلَدِها في البوح وإطلاق عنان قلمها لتقول أي شيء، لكنك لن تعثر في النهاية على بناء سردي محكم يعتني بتقنيات السرد والحوار ونمو الحدث وتشكيل الشخوص. وذات الحال ينطبق على بقية الأعمال التي جاهدت في أن تمنح شخوصها وأحداثها الحيوية اللازمة لكنه أمل لا يتأتى وهدف لا يتحقق في ظل عدم وجود حدث يمكن بث الروح فيه -وإن طعّمته بمصطلحات واستعراض مقولات فلسفية واقتباسات- ذلك أن الحدث الروائي ضعيف أساساً ولن ندخل في الأسباب لأن هذا سيحتاج إلى مساحة أرحب. طبعاً هذا لا يقلل من مساحة الأمل لدى المتتبع لعطاء بثينة العيسى فقط لو أخلصت لتجربتها وسعت إلى تطويرها بعيداً عن المديح الزائف الذي لم يشفع لها في إقناع محبي الرواية ومتذوقيها ودارسيها سيما وأن جل الشهادات التي قرأتها عن تجربتها من أناس بعيدين عن الهمّ الروائي ومن حقول مختلفة ما يؤكد تماماً أن ما يبقى هو العمل الحقيقي الذي تشرّب الإبداع الحقيقي عبر أدواته الحقيقية وتقنيات هذا الفن بالإضافة إلى الخبرة والجهد الدؤوب المبذول من الكاتب نفسه. ونذكّر بأن الرواية فن جميل وميدان رحب لمن يخلص له إذا كان لدى الروائي ما يقوله فعلاً؟. لكن ما قدمته بثينة في كل أعمالها شابه الكثير من الاستسهال وعدم التؤدة وزج بنصوص قديمة كتبتها في موقعها الإلكتروني وقام أحد بإقناعها -حسب نقد أحدهم لها- لتطويره إلى عمل روائي فما كان منها إلا أن قدمت عمل لا يرقى لأن يطلق عليه رواية. لذلك على بثينة أن تحرص على أن يكون خصوصيتها التي تعيها ويجعلها متفرّدة إن كانت تنوي الاستمرار في هذا الميدان وأن تعبّر عن نفسها في أعمالها القادمة. في الختام يحضرني تعليق جميل لفوكنر عندما سألوه ذات مرة عن رأيه في جيل ميلر حيث قال: "إنّهم يكتبون كتابة جيّدة، غير أنه ليس لديهم ما يقولونه"!