أجبتُ، مرة، عن مجموعة أسئلة تحت عنوان (أنتَ والمكتبة). أسئلة تتعلق ببداية تكوين المكتبة الخاصة، بمحتوياتها، وكيفية تنظيمها، والعلاقة بها، ونوعية الكتب المفضلة. لم يغادر المحرر جانبا إلا وتطرق إليه، بما في ذلك الأثاث ولون الخشب. والمكتبات، سواء كانت خاصة أم عامة، موضوع زاخر بالإيحاءات. وقد اتُخِذتْ إطارا لبعض الأعمال السردية. كانت (مكتبة الدير)، مثلا، هي الإطار المكاني لرواية (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو، فمن الكتب ومضامينها «صنع إيكو» كما يقول أحمد الصمعي «روايةً تعيد كتمتمة الذاكرة في الحلم ما قرأته العين في صفحات أخرى». كذلك نظر بورخس إلى الكتاب باعتباره عالما غير محدود. وقد شكلت المكتبة إطارا لكتابه (المرايا والمتاهات) وبالتحديد سردياته (كتاب الرمل) و (مكتبة بابل). فمن عدد محدود من حروف الأبجدية تتكاثر تلك الأعداد الهائلة من الكتب في مختلف حقول المعرفة. أما السؤال الذي لم يطرح في ذلك اللقاء فهو: إلى من توصي بمكتبتك «بعد عمر طويل»؟. ولابد من هذه اللازمة الموضوعة بين مزدوجين للتخفيف من ثقل السؤال. وهو سؤال مؤجل، ونادرا ما يناقش مع المحيطين بنا بشكل جاد. وفي الذاكرة بقايا فيلم لا يحضرني عنوانه، عن مثقف مات وترك وراءه مكتبة من الوزن الثقيل. رحل فورثه قريبان: رجل وامرأة. قسَّما محتويات المكتبة بينهما بصعوبة بالغة، فقد كانت اهتماماتهما الثقافية متشابهة، وبقيت موسوعة ضخمة لا تقبل القسمة. فالموسوعة لا قيمة لها إذا جُزّئتْ. لكن المرأة أصرت، وبعناد، على تقسيمها، وهو اقتراح لا يمكن لأي عاقل قبوله. هذه هي عقدة الحكاية. لكن، وعلى طريقة جميل بثينة القائلة: «وأول ما قاد المودةَ بيننا بوادي بغيضٍ يا بثينُ سبابُ»، انتهى الخلاف بالحب، ثم بالزواج كحل لبقاء الموسوعة كاملة تحت سقف واحد. نادرا ما يطرح سؤال كذلك الذي أشرت إليه. وإذا طرح أو نوقش بقيت الإجابة معلقة. لكن مشكلة الكاتب، كما يصورها أمبرتو إيكو، لا تكمن هنا فقط. فهو يطرح المسألة في كتابه (كيفية السفر مع سلمون) بشكل ظريف وجاد في الوقت نفسه، فقد نصح الكتَّاب بعدم السماح بنشر أعمالهم سوى ما كانوا قد قرروا نشره في حياتهم. «ويكمن الخطر الأول في رؤية نصوص غير مطبوعة وقد نُشِرتْ وجرى تداولها، واستُنتِجَ منها بأنكم كنتم في منتهى الحماقة»! وهذا صحيح، ففي درج كل كاتب مسوَّداتٌ غير مقتنع بها، لكنه يحتفظ بها لسبب ما، وقد حدث هذا لكثير من الكتاب الكبار بعد رحيلهم، ودور النشر حريصة على نشر تلك المسوّدات لتحرز قصب السبق، والورثة حريصون على المال لأن فيه من (ريحة المرحوم)! لذلك يقترح إيكو على الكاتب، ليتلافى تهمة الحماقة بعد رحيله، أن يتلف يوما بيوم، أي شيء من هذا القبيل. رفوف مكتباتنا الخاصة أيضا تضحك من تزاحم الأضداد، فهي تضم إلى جانب الكتب القيمة كتبا باهتة، لكنها حالة مختلفة عن تلك التي أشار إليها إيكو.. لأن (حقوق الحماقة) محفوظة لمؤلفيها وحدهم. أطال الله في أعماركم.