كثيراً ما نتجاذب أطراف الحديث حول القصص التاريخية التي تصف الماضي التليد، ذلك التاريخ الذي سطره المسلمون من عرب وعجم؛ شدّوا رحالهم وجابوا الأرض شرقاً إلى بلاد الصين وغرباً وصولاً إلى الأندلس بحثاً عن المعلومة وسعياً للاكتشاف ونشراً لأخلاق الدين، ولا أظن أحداً ينكر ما لماضينا الذي أضاء مشارق الأرض ومغاربها من تأثير امتد أثره إلى لغات العالم ومنها إلى عاداتهم وتقاليدهم، حتى أصبح الإسلام جزءاً من فلسفة الحياة، فظهر لنا الفنّ الإسلامي الذي يشمل الأدب والطراز المعماري وغيرهما. وللتقدم الحضاري جناحان يستحيل التحليق من دونهما، وهما: القوة البشرية والقوة الاقتصادية؛ إنهما القوتان المحركتان لأي مجتمع في العالم، ولو نظرنا سريعاً إلى الدول التي حلقت نحو التقدم والتطور لوجدنا أنهم استغلوا هاتين القوتين بفعالية منتجين بذلك ثروة حضارية لا تنضب بسهولة. ولا شك أن للمسلمين قصب السبق يوم استثمروا طاقاتهم البشرية والاقتصادية فحكموا العالم وسادوا؛ إلا أنهم لم يفطنوا إلى الغرب الذي أخذ يدرس حضارتهم ولغتهم دراسة مستفيضة ثم استفاد منها وبنى عليها قلاعاً من الإبداع والتطور. وبرنامج الابتعاث الذي أرسى دعائمه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز- يحفظه الله- يعتبر بداية الالتحاق بقوافل العالم المتقدم، وهو أول الغيث الذي سيسقي بإذن الله الوطن ويروي العباد، وهذا البرنامج الرائع يعتبر مفتاحاً مهماً لبوابة المستقبل التي سيدلف منها أبناء الوطن إلى العالم بكل ثقة؛ لأنه مهما كانت جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية المختلفة متطورة ولديها الإمكانات الجيدة، إلا أننا لا نزال بحاجة ماسة لأن نفهم سرّ تطور العالم الأول لنبدأ من حيث انتهوا، ولا يمكن لذلك أن يحدث دون دراسة مجتمعاتهم وسلوكياتهم الإيجابية؛ خصوصاً إذا ما اعتبرنا النجاح سلوكاً وليس مجرد نتيجة فحسب. إن التطورات والتغيرات التي يشهدها العالم اليوم تتطلب خطط توعية وتثقيف منظمة على جميع المستويات، ولن يتحقق ذلك دون المشاركة الفاعلة من المؤسسات الأكاديمية والتعليمية التي حملت هذه الأمانة على عواتقها، وذلك من خلال تفعيل البرامج البحثية والإفادة من خبرات المبتعثين بأكبر قدر ممكن؛ لأن مساهمة أفراد المجتمع ليست مقصورة على سنوات الخبرة أو تخصصات بعينها، بل هي نتاج عقول وتجارب مختلفة المشارب انصهرت جميعها على تنوعها في قالب واحد يجمعها حب الوطن سعياً لخدمة أمتهم. ويبقى الابتعاث الذي نعيش وقع خطواته المتسارعة طيلة هذه السنوات بوابة مشرقة لمستقبل واعد –بإذن الله- صنعها قادتنا واستفاد منها السفراء المتميزون من الأبناء والبنات الطموحين الذين تحملوا الغربة وحنين الوطن، وفاءً لأهلهم وأرضهم، فلهم منّا أجمل تحية وبانتظار عودتكم لأهلكم ووطنكم الذي يفتقدكم.