يرى الناقد إيان واط في كتابه "نشوء الرواية" أن أعمال الكاتبين البريطانيين دانييل ديفو وصمويل ريتشاردسون تمثل أساساً لما يعرف بالرواية الواقعية الحديثة التي تخلصت من الخيال الأسطوري واتجهت نحو الواقع لتعرض قصصاً لشخصيات وضيعة من عمق المجتمع؛ فكانت أعمالهما ثورة على المستويين الاجتماعي والأدبي. ويعتبر دانييل ديفو الأشهر في هذا السياق بأعماله الروائية الشعبية التي لا تزال تحصد انتشاراً عالمياً منذ إطلاقها في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي وحتى اليوم, خاصة روايتيه الشهيرتين "روبنسون كروزو" و"مول فلاندرز", اللتين, إلى جانب أعماله الأخرى, كانتا معبرتين عن طبيعة المجتمع البريطاني في الفترة السياسية الحرجة التي أعقبت ثورة العام 1688. دانييل ديفو المولود عام 1659 كان أحد الفاعلين في الشأن الاجتماعي, وبدأ مسيرته مع الكتابة بمنشورات صحفية تناول فيها واقع المجتمع وانتقد السياسة بأحزابها ورؤسائها, حتى تم تصنيفه ضمن أشد المعارضين لسياسة الحكومة البريطانية, لكن حدة انتقاداته تراجعت كثيراً بعد خروجه من السجن عام 1703 وأصبح أكثر محافظة. وقد تأثر أسلوبه في الكتابة بتجربته الصحفية فكان بعيداً عن التكلف اللفظي قريباً من لغة رجل الشارع البسيط وتجلى هذا الأسلوب في رواياته. ألف ديفو روايته الأشهر "مول فلاندرز" عام 1722 وهي بحسب ما كتبه بنفسه في مقدمة الرواية مجرد سيرة ذاتية لسيدة تلاعبت بها الأقدار وتأرجحت بين الخير والشر طيلة حياتها. ويزعم ديفو أنه لم يكتب الرواية إنما قام بتحريرها فقط وأن من كتبها فعلاً هي بطلة الرواية السيدة "مول"؛ وهي بحسب ما يذكره المؤرخون إحدى النساء المسجونات اللواتي التقاهن ديفو أثناء عمله الصحفي. تروي "مول فلاندرز" قصة طفلة صغيرة تخلت عنها والدتها وتركتها في ملجأ لتصارع الحياة لوحدها منذ وقت مبكر. وقد قادتها الأقدار لأن تصبح سيدة نبيلة في أحيان, وخاطئة في أحيان أخرى, وبين هذه وتلك نراها تسعى للزواج أكثر من مرة بحثاً عن زوج غني يوفر لها الأمان. وبعيداً عن تفاصيل القصة, وما جرى للسيدة "مول" من مصائب, وما واجهته من تحديات واختبارات أخلاقية, فإن الرواية تعتبر تجسيداً لواقع المجتمع البريطاني في تلك الفترة التي خرج منها من حكم إقطاعي متشدد إلى آخر رأسمالي أكثر حرية وما رافق ذلك من ارتباك في منظومة القيم والأخلاق, بحيث أصبحت "مول" بشكل ما هي صورة لكل مواطن بريطاني بسيط حائر ومرتبك أمام واقع جديد لا مكان فيه للمُثُل العليا. غلاف النسخة العربية