إذا كان نزار قباني التحم شعرا بدمشق، فإن خيري الذهبي ارتبط رواية وسردا بمدينة السحر والياسمين، ليس لأنه ابن هذه المدينة جينيا وإنما لأنه صاغ من هذه المدينة "تخييلاً" طبع في وجنتي الفن الروائي قبلةً، اسمها دمشق!. الروائي السوري الذي بدأ الكتابة الروائية منتصف السبعينيات ارتبط اسمه بمجموعة نصوص روائية خاطت من التاريخ المعاصر شخوصا وحبكات لن تنسى إلى الأبد، فثلاثيته الروائية (حسيبة - فياض - هشام) يرى فيها النقاد علامة مهمة في الأدب الروائي السوري الحديث؛ ثلاثيةٌٌ يرفض أن يصفها الذهبي بالتاريخية، وهو الغارق في متون التاريخ.. ولأننا في فضاء السرد "الذهبي"، فسيدور حديثنا معه حول التجربة السردية السورية وتجربته الروائية الخاصة التي مر عليها أكثر من 30 عاما منذ صدور روايته الأولى (ملكوت البسطاء 1976).. حتى هذا اللقاء الذي أجري في بيته ذات مساء دمشقي: * ما الذي يمكن أن يقدمه المشهد البصري (السينمائي)، للنص الروائي، وما الذي يمكن أن يسلبه منه؟ - إن أي نص أدبي، حينما يحوّل إلى نص مرئي، يفقد كثيرا من جمالياته الخاصة، لأن النص الأدبي قبل كل شيء، قائم على الكلمة المجردة، بمعنى هي تجريدٌ بالأصل وليست صورة. بالتالي حينما أقدم مثلا: شخصية (حسيبة) أو (خالدية)؛ سوف تراها برؤيتك الخاصة كقارئ. حتى جماليات المكان الموجودة في الرواية ستجد أن كل واحد منا سوف يصوغها بصياغته الخاصة. وحينما يتحول النص إلى نص مرئي، الأخيلة كلها ستختصر في خيال واحد هو خيال المخرج. *هل حضرت تصوير مشاهد فيلم (حسيبة) المأخوذ من روايتك ؟ - طبعا. *كيف وجدته بعد عرضه؟ - عمل جميل. *هل تدخلت في المقاربة النصية والبصرية للمخرج؟ -طبعا، تدخلت كثيرا في السيناريو وفي الحوار.وذلك باتفاق مع المخرج. * بعد قراءة ثلاثية التحولات (حسيبة/فياض/هشام) لاحظت أنك تقوم بسرد التاريخ الاجتماعي لسورية عبر "القناة" الروائية..ما يدفعني للسؤال عن نظرتك الخاصة بالرواية التاريخية؟ - أولا، أنا لا أكتب الرواية التاريخية، ولم أكتبها في يوم من الأيام، ولا أحب كتابة الرواية التاريخية؛ لأنها بكل بساطة عكاز الكسول، وقليل الإبداع الذي يريد أن يتكئ على التاريخ. في سورية، سيطر "على الجو" في الخمسينيات والستينيات ما يسمى بأدب الالتزام؛ الأحزاب السياسية في سورية آنذاك ضغطت به علينا بشكل مرعب، حيث تحول الكتاب جميعا إلى أصوات للسياسة. هذا التحول ما الذي أنتجه؟. تحولت الكتابة إلي عمل، هناك مُستغِل ومستغَل؛ إقطاعي وفلاح، رأس مالي وعامل؛ فأصبحت الكتابة الأدبية ضعيفة، يسردونها بطريقة ميكانيكية. وذلك من خلال إحضار شخصية إقطاعي يقوم بظلم فلاح ما. وحتى الآن لا أزال أقرأ نصوصاً تكتب بهذه الطريقة. * هذا بفعل مرحلة محاكاة "الواقعية الروسية"؟ - طبعا. في الخمسينيات، السيد "غوركي" تسلل إلى سورية، فصار عشرات الكتاب، يطمحون إلى تقليد السيد غوركي. ثم في أواخر الستينيات ترجم سهيل إدريس لنا أعمال جان بول سارتر وصاروا كلهم يريدون أن يكتبوا أدبا وجوديا. وفي أواخر السبعينيات أوائل الثمانينيات، تُرجم ماركيز، وصاروا كلهم "واقعية سحرية". أما في التسعينيات، بعد أن ترجم ميلان كونديرا، وهو طبعا، من أهم مفكري الأدب في العالم، عندما تقرأ روايته تشعر أنها اختصرت الثقافة الأوربية كلها في رواية واحدة، ولكنهم (الروائيون السوريون) لا يقرؤون كونديرا كما يجب. لأن الأخير يقوم بتكنيك ما، يعتمد على تمرير كمية هائلة من الثقافة، مضافٌ إليها كمية من الجنس. والجنس بالنسبة للحضارة الأوروبية ليس "تابو" وليس محرما، أما قراؤنا الذين تحولوا إلى كتاب، أخذوا من كنديرا الجنس فقط ونسوا كل عمارته الفكرية. * ما هو الشكل السردي الذي تفضله في التعامل مع الرواية التاريخية؟ - هناك شكل آخر من الكتابة وهو استخدام التاريخ كمادة روائية. مثلا رواية مارغريت ميتشل (ذهب مع الريح) وهي ليست رواية تاريخية، لكنها رواية تسبح في بحر التاريخ. تتحدث عن مرحلة تاريخية، لكنها غير ملتزمة بالحدث الحقيقي. وكذلك رواية (اسم الوردة) لامبرتوايكو، حيث استخدم الأخير التاريخ كمادة روائية، أي أعاد طبخ التاريخ ليصنع منه رواية، ومن حق الروائي أن يستخدم التاريخ والفلسفة والأديان المقارنة والانثروبولوجيا، وكل المعارف البشرية. أنا عندما أكتب رواية باستخدام علم النفس، لا يمكن أن أقول أني أكتب رواية نفسية. * ما هو تقييمك للرواية السورية الحالية، انطلاقا من تجربتك في الرواية طوال ثلاثة عقود؟ - أنا متفائل بالرواية السورية، كشريحة من شرائح الرواية العربية. هنالك شباب بدؤوا يكتبون أشياء جميلة، ولم يعودوا خاضعين للمؤسسة في الكتابة. ميلان كوندير * كيف؟ - لأربعة عقود مضت، حدث شيء غريب، في تاريخ سورية وهو أنه صدر قرار، في أوائل الستينيات، طرد بموجبه عدد كبير من المثقفين والأكاديميين والصحفيين من الساحة الثقافية والأكاديمية، وحرموا من حقوقهم المدنية، على أساس أنهم انفصاليون، وحينما خلت الساحة؛ جيء بجيل كامل، من المثقفين الجدد، من حملة الشهادات الثانوية وأهلية التعليم الابتدائي، وملئت بهم الساحة الثقافية، هؤلاء هم الذين شكلوا فيما بعد الجيل الذي تلى من المثقفين. طبعا هنالك مبدعون منهم استطاعوا أن ينجوا بأنفسهم من تأثيرات المأسسة، كهاني الراهب وسعدالله ونوس.. لكن الأكثرية كانت عبئاً على الحالة الثقافية. لأنهم استلموا مواقع إدارية، وأنا أعتقد أن تلك المرحلة انقضت والحمد لله، وأنا الآن أتأمل خيرا في الحيل الجديد، من الكتاب الشابات والشباب. *إذا أردت أن تصف خطاب الرواية عند الشباب ماذا تقول عنه؟ - أكثر كتابات الأجيال الشابة وليس أجيال المؤسسات، هي كتابات غاضبة واحتجاجية وتحاول البحث عن موطئ قدم لها في هذا المكان، الذي أخذه الجيل السابق. *كيف كان تأثير تيارات مثل الرواية الجديدة أو "الوعي" على كتباتك في المراحل الأولى؟ - عندما يقرر أحد الدخول إلى عالم الإبداع، فأمامه خيارين، إما أن يصغي إلى ذوقه المربى غربيا، وهذا حال معظمنا، فيحاول أن يساير آخر ما قدم في عالم الفن الروائي، وهذه لها مخاطرها حيث سيجد نفسه منقطعا عن العالم. وإما أن يساير الذوق المحلي، وبذلك يخسر الشيء الكثير من الجماليات الإبداعية التي يريد أن يشتغل عليها، ويخسر أيضا التواصل مع العالم، هناك القلة من يستطيعون ربط الحصانين بعربة واحدة، وأنا منذ روايتي الأولى حاولت أن أشتغل على كيفية ربط الحصانين. ربما فشلت في بعضها وربحت في الآخر. لكني كنت مصرا ومحاولا على ربط هذين الحصانين، وعلى محاولة استخراج شكل محلي يصل مابين ذائقتي المتربية تراثيا، وذائقتي المتربية غربيا، لأصنع شيئا جديدا. * وهل يندرج هذا تحت التجريب؟ - جربت كثيرا.. في روايتي الأولى تستطيع أن تلمح بوضوح فوكنر وداريل، من حيث الشكل، لكن المادة المطروحة فيها كانت مادة شديدة المحلية، إذا استعرت الشكل الخارجي لكن لم استطع أن أتخلى عن جماليات المكان والحدث و الحكايا المحلية.هذه الرواية لقيت اهتماماً نقديا لافتاً وحولت فيما بعد إلى مسلسل. * هل تحاول في رواية (صبوات الياسين) أن تجري نوعا من محاكمة المثقف كما رأى البعض؟ - بعد فترة انقطاع طالت العشر سنوات اضطررت إليها بسبب صراع مع بعض أجهزة الدولة، وحرمت فيها من العمل واضطررت إلى الكتابة إلى التلفزيون لكي أحصل على رزقي، قررت بعد هذه الفترة التوقف عن كتابة التلفزيون، وأعود إلى الرواية، وكأني كنت محتقنا، فكتبت في 4 سنوات 4 روايات، هي من أجمل ما كتبت في كتاباتي، هي (صبوات الياسين) و ( ولو لم يكن اسمها فاطمة) و (فخ الأسماء) و (ورقصة البهلوان). في هذه الروايات حاولت أن أقدم شهادتي الكاملة، على نصف القرن الأخير وما جرى فيه في سورية، من عدة وجهات نظر ومن وجهة نظر إفساد رجال السلطة للمجتمع كما في (لو لم يكن اسمها فاطمة)، المجتمع البرجوازي الصاعد، لو لا لم تدخل عليه الثورة، وتقلب بنيانه، وتحيله إلى ما نرى الآن. في (صبوات الياسين) المثقفون الذين اصطدموا مع الدولة الناشئة واضطروا إلى التحول إلى أصبغة وألوان وأقنعة حتى يستطيعوا العيش. لكنهم لم يستفيدوا من هذه المحاولة كلها إلا بفقدان أنفسهم، وضياع ثقافتهم، وتحولهم إلى ذيول للنظام الشمولي. مكسيم غوركي * تلك كانت شهادتك في الروايات الأربع، ولكن ماذا عن ثلاثية التحولات؟ - في التحولات (حسيبة، فياض، هشام) لم أكن أقصد بكلمة التحولات والتطورات، بل كنت أقصد فيها ترجمة الكلمة الإغريقية اللاتينية (ميتا مورفيس) والتي تعني (التناسخات) لأني أرى أن الحضارة العربية قد توقفت عن كل عطاءاتها منذ القرن الرابع الهجري، ليس هنالك من اجتهادات فلسفية أو فكرية، وحتى المذاهب توقفت عن التشكل، ليس هنالك من مذاهب جديدة، وكل ما فعلتها هذه الحضارة أنها تقوم بنسخ نفسها ببلادة وهذه كانت رسالتي في التحولات. * صحيح أنك أول من تطرق للمكان الدمشقي سرديا ؟ - أولا، كان من حظي أني ولدت في حي عريق من أحياء دمشق، يدعى حي القنوات، وكان أبي محافظا جدا فوضعني في مدرسة في حي النوفرة العريق، وكان علي أن أمشي يوميا في عمر الخمس سنوات من حي القنوات – باب الجابي – سوق الحميدية – الجامع الأموي –ثم المدرسة في النوفرة وكان هذا المرور اليومي الذي كنت أعده عذابا عندما كنت طفلا، ولكنه اتضح فيما بعد أنه المدرسة التي طبعت في ذهني لأول مرة كل جماليات دمشق. ولأني لم أعش فترة تكويني في دمشق، لم أتأثر بالضغط الموجود في سورية على الوجدان الأدبي. ولأن التيارات الفكرية والسياسية في سورية (شيوعية، عروبية، قومية سورية، اسلامية) لم تكن تنظر إلى الداخل، وكان ينظر إلى سورية على أنها الوطن المعبر إلى الوطن الآخر. مثلا العروبي كان يحلم بالوطن العربي وهكذا ولم يكن فيهم من يقول سورية وطني. هذه المقولة كيف انعكست على الأدب، صاروا بمعظمهم يكتبون عن الوطن المتخيل، وليس عن المكان الذي يعيشون فيه، لأنهم لو كتبوا عن المكان الذي يعيشون فيه فإنهم سوف يخونون الحلم ولكي لا يخونون الحلم صاروا يكتبون عن بغداد الأسطورية وقرطبة ومكة. ولكنهم كانوا يخافون الحديث عن المكان. وأنا منذ روايتي الأولى كنت ملتصقا بالمكان، ولم أكن أفتعل هذا الشئ، لأن دمشق كانت مطبوعة منذ الطفولة في وجداني. وهناك مثل يقول: إن العصفور المغرد يحفظ كل ما سوف يغرد من أغان، في الأربعة الأيام الأولى في العش. * ربما هذا التحليل ينطبق على أول (سيناريو مسلسل تلفزيوني) كتب عن الشام، من تأليفك وهو (لك ياشام)؟ - وربما كان أول مسلسل. وهو تحدث عن المكان وجمالياته ومصاعبه، ضمن رؤية سياسية واضحة، كان مسلسل ( لك ياشام)1987 والذي ما إن قدم حتى هجم الكتاب ليقلدوه. والمفارقة أنه وهو مكتوب مخطوط لم يُنفذ. سطا عليه ثلاثة كانوا يعملون في التلفزيون السوري. ولن أذكر أسماءهم لأن بعضهم توفي.