رواية «روبنسون كروزو» ل(دي فو)، من أول ما ترجم من الروايات إلى اللغة العربية عام (1835)، ثم «مغامرات تليماك» ل(فينيلون) التي نقلها رفاعة رافع الطهطاوي في منفاه بالسودان (1849 – 1854). الروايتان تنتميان إلى الحقل اليوتوبي الذي احتل النصيب الأعظم في بواكير النهضة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتتضمنان -إلى جانب غرضهما التربوي- مديحا للحرية والنزعة الفردية التواقة إلى الانعتاق من أسر العصور الوسطى. في تلك الحقبة ذاتها، عرضت «مجلة الهلال « تلاخيص من «يوتوبيا» توماس مور، و»مدينة الشمس» لتوماسو كامبانيللا، و «أطلنطيس الجديدة» لفرنسيس بيكون. كذلك الحال مع مجلة «تراث الانسانية» و «الرسالة» في النصف الأول من القرن العشرين، كما نشر سلامة موسى كتابه «أحلام الفلاسفة «، وحظيت الكتابة في هذا الحقل باهتمام بالغ من القراء. وقدمت موسوعة البستاني (دائرة المعارف) عام 1887 عروضا ثرية لنظريات سان سيمون، كما كان لتشييد قناة السويس علي يد السانسيمونيين دور في ترويج فكرهم (اليوتوبي الاشتراكي) في مصر وغيرها من البلدان العربية. وكأن «اليوتوبيا» أو المجتمع الفاضل المنشود، يرتبط ارتباطا عضويا بمشروع النهضة (أو التجديد بشكل عام)، من حيث أن اليوتوبيا في أنقى معانيها هي طلب المفقود والتطلع لرؤية الواقع في صورة أفضل مما هو عليه. وما يلفت النظر في تاريخ اليوتوبيات بوجه عام، هو انتعاشها في مراحل التحول التاريخية، وحركة العودة القوية إلى الأصول اليوتوبية في تلك الفترات التي تتميز عادة بتمزق الوجود الاجتماعي، واندحار قيم قديمة أمام قيم جديدة ناشئة. ويوجد من أعلام اليوتوبيا من تدخل مؤلفاته في طي النسيان ثم تنهض كالأرواح المستحضرة. حدث ذلك في أثناء الثورة الفرنسية (1789)، وفي أزمة ما قبل الحرب العالمية الأولى (1890 – 1913)، وفي ربيع 968 ، حيث استعاد قدامى اليوتوبيين أمثال: توماس مور وبيكون وولز ومابلي وفورييه وغيرهم ملامحهم الفكرية، إذ اعتنى كبار النقاد والفلاسفة في الغرب بنصوصهم عناية علمية فائقة، تحقيقا ونشرا، وخصصت أطروحات جامعية لفلاسفة اليوتوبيا وأدبائها في مختلف لغات العالم. ومازلت أذكر كتاب «أرض الأحلام» للدكتور زكي نجيب محمود (1905 – 1993)، في طبعات ثلاث نفدت فور صدورها، صدر أولا في أواخر الثلاثينيات (1939)، فنال عنه جائزة التفوق الأدبي، وهي جائزة رصدتها وقتئذ «وزارة المعارف» التي كان يرأسها الدكتور محمد حسين هيكل. وصدرت طبعته الثانية عقب قيام ثورة يوليو 1952 في سلسلة «كتب للجميع»، بعد حذف ما يقرب من نصف حجمه نظرا لطبيعة هذه السلسلة، التي كانت تتولى نشر الكتب الثقافية في طبعات شعبية. واحتفظ الكتاب في طبعته الثالثة في سلسلة «كتاب الهلال» عام 1977 بنفس حجم وقطع الطبعة الثانية، وإن بقيت مقدمة الكتاب في طبعاته الثلاث، محتفظة بمضمونها العام وبتوجه كاتبها، الذي ذيله ب (صيف 1939)، وحفل بعرض وتحليل أهم اليوتوبيات التي ظهرت في التاريخ الإنساني، وهي : «الجمهورية» لأفلاطون، «المدينة الفاضلة « للفارابي، «أطلنطيس الجديدة» لفرنسيس بيكون، «يوتوبيا « لتوماس مور، «آرون» لصمويل بتلر، «أبناء الأرض التي لا وجود لها» لوليم موريس، «يوتوبيا حديثة» ل(ه . ج . ولز). ولا يخرج كتاب الدكتور زكي نجيب محمود عن المنظومة الفكرية لهذه المرحلة، مرحلة النهضة و»الحلم» بالمجتمع الفاضل، حيث خاطب القارئ في المقدمة، قائلا : «لو أحس القارئ بعد فراغه من قراءة هذا الكتاب بشيء من الضيق بما نحن فيه من عيش سقيم بائس، ثم أحس مع ذلك برغبة في التغيير والإصلاح على نحو اشتراكي يعرف للأفراد أقدارهم، ويترك لهم حق حرياتهم، ويحطم الفواصل البغيضة بين الناس ... لو أحس القارئ بشيء من هذا بعد فراغه من قراءة الكتاب، تحقق لي الهدف الذي قصدت إليه». ترى عزيزي القارئ: هل فقدنا القدرة على الحلم.. على اليوتوبيا.. أم أننا نفتقد إلى مشروع جديد للنهضة في أوائل القرن الحادي والعشرين؟