الحنين عهدة التذكر. والزمن يحكم قبضته على ذاكرة آيلة للبكاء! الحنين جزء لا منتمٍ إلا لقائمة الذكريات! والذكريات ذاتها مفردة عذبة جدا. على شفة مشقَّقة من التبغ.! حتى على الجدران العابثة. وقوائم جسور الطريق المزروعة في الصحراء. يكتبها من لا يدرك عذوبتها.. ولا يتفهّم عذابات أهلها. أيها الشاعر المتعب منك. لاتهرّب حزنك عبر كيمياء اللغة. إنه الحنين. الحنين يا إبراهيم! حسناً. وما الذي يضيرك. حينما يكون حنينك امرأة رحلت عنك بإرادتها. وتمنّعت على قلبك الودود! .. إنما الحنين إلى زمنها. لا إليها! حين تقيس زمن سعادتك بها. بعاديّتك قبلها أو بعدها. لن يعميك عن عذوبته إلا التحسّر عليه حد تشويهه، ومحاولة استعادته حد تغيير ملامحه! ألا يغفر للراحلين عنا زمنهم معنا..؟! .. أقسم لولا أنه عذب. ما نظرنا إلى ذهابه وجعاً. حينما لم نشعر بالوجع قبل دخولهم معنا في تاريخ زمني مشترك! أشعر بواقعية مستسلمة. أو محبطة. أو ربما عاقلة جدا، أن البكاء على المفقود ترفٌ عاطفي، حينما لم يكن وجوده إلا إضافة للحياة لا جزءا منها.. لأكن أكثر قسوة. أو ربما وقاحة!! كيف يبكي أخ فقد أخاه مثلا، حينما لا يبكي آخر كون أبويه لم يمنحاه أخا.! حسنا يا إبراهيم! إنه الحنين للزمن. للتاريخ. المشترك. فابكِ ما شئتْ! لن يعنيكَ عاذل لم يدخل زمنك، ولا يعرف عن أحبتك ما تعرفه أنت، حينما لا يعنيك منهم إلا ماكان لك من أيامهم! (الشعراء يموتون طويلا.!) لا تغفو هذه الرؤيا في ردهة الذاكرة إلا كي أتذكرها كلما أموت. أو حين أحيا بعدها! تماماً كما أن الموت ولادة تاريخ لا يعتني به كل من يموت قبله. حسنا علينا نسيان قصائد الرثاء عندما نموت، حتى وإن تباكى الشعراء من الفقر، أوترنّحت الظلال من دوخة الرقص، ودُوار التذكّر! الموت ذاكرة للنسيان. شيخُ تلفَّع بالسواد متجها للزوال. حين يبشر بالعودة إلى الطين.. الموت ساعة صغيرة على معصم فتاة مشلول.! عمود رخاميُ في ميدان المزدحمين. علّقت عليه ساعة ضخمة لا تتكرر أجراسها! ثقب في طبقة الشجون ينفذ عبره بخار المواقف والتواريخ والأحداث. فلا يتكثف السحاب، ولا تحمله الرياح بمشيئتها حتى وإن أذن لها الرشيد! الموت عود كبريت هاجع لا يشتعل وحده. إلا حينما يأكل الذنب من الأمم القاصية! إنه لحظة أفول مذهولة. ولفظة ذهول مأهولة بنوم القلوب واستراحة الدم من رحلات الفصول الأربعة! بكاء من بعدنا عليهم حينما يشبهوننا آخر الطريق! ليس بين الشاعر والشاعر إلا الموت. وليس بين الموت والموت إلا ما يدركه الشاعر! لهذا فقط مات طرفة بن العبد مبكّراً. وعمّر لائمه طويلا. ولهذا فقط كلما هيأنا للموت ذاكرة حيّة. أعاد (موت) الشاعر لذاكرتنا الحياة!