مثلما تعاود الأواني الفخارية للظهور كلما حلّ الشهر الفضيل، تعود كذلك كل أصناف الخبز التقليدي في الجزائر، بالأخص في المدن الكبرى، خلافا للقرى والمداشر المستمرة في ذلك، وتفضّل العائلات في غير رمضان شراء الخبز الإفرنجي من المخابز بدلا من عجنه في البيت مثلما تفعل نساء المناطق الريفية التي ما تزال إلى اليوم تستعمل الأفران التقليدية أو "الكوشة" المبنية من الطوب الممزوج بالتبن وفضلات البقر أو الآجور في طهى "خبز الكوشة" ذي الطعم الخاص. وعلى قدر اتساع رقعة الجزائر، وتباين عادات وتقاليد أهلها، واحتفاظ كل منطقة بخصوصياتها الثقافية والاجتماعية رغم محاولات المسخ الاستعماري، وتنوع العنصر البشري فيها من عرب وأمازيغ وإباضية وطوارق، تتسع رقعة التنوع في أصناف الخبز التقليدي وتتباين. فالخبز القبائلي الذي تصنعه نساء بلاد القبائل بمدنها الثلاثة الرئيسية، تيزي وزو وبجاية والبويرة، لا يشبه في شيء خبز الشاوية وهم رعاة مناطق الحضنة والأوراس والنمامشة، الذي تصنعه أنامل الشاويات بمناطق "خنشلة" و"باتنة" و"تبسة" و"قالمة" و"سوق أهراس" رغم أن بعضهم من الأمازيغ لغة وعرقا، وخبز قبائل "أولاد نايل" المتمركزين أساسا بمنطقة "الجلفة" بوابة الجنوب الجزائري، لا علاقة له بخبز سكان الصحراء، من عرب وطوراق أو (الرجال الزرق) رعاة الجمل، المنتشرين بنواحي "تمنراست" و"إليزي" و"عين صالح" الذي يتم طهيه على الجمر تحت الرمال، وكذلك خبز الميزابيين وهم تجار (يتبعون المذهب الإباضي) وهم من أصل أمازيغي، المنتشرين بمنطقة وادي ميزاب التي تضم المدن السبع "غرداية" و"العطف" و"بني يزقن" و"مليكة" و"بونورة" و"القرارة" و"بريان" مختلف عن خبز الجهة الغربية من البلاد لدى "الشلحة" من سكان "تلمسان" على الحدود الجزائرية المغربية أو"الشناوة" بمنطقة "البليدة" و"تيبازة". ومثلما تتنوع أسماء المناطق والجهات في الجزائر تتنوع معها تسميات الخبز التقليدي الجزائري الذي يعاود الظهور بشكل لافت فوق المائدة الرمضانية كل عام متقدما في الاستهلاك على نظيره الإفرنجي (الباقيث الباريسية) الذي يظل خارج الشهر الفضيل، سيد الموائد الجزائرية على طول السنة. وتحافظ بعض الأصناف من الخبز التقليدي على تسميتها القديمة بلغتها الأصلية، تتيح قاموس قائم لذاته بأسماء الخبز التقليدي في الجزائر باللغتين العربية والأمازيغية والأخيرة تتفرع إلى عدة لهجات محلية. ففي بلاد القبائل حيث غالبية السكان الأمازيغ يحلّ خبز "الرخسيس" محل "الكسرة" العادية، والرخسيس خبز تقليدي عريق تحضرّه القبائليات خصيصا خلال شهر رمضان المعظم، فهو خبز محشو بالبصل والطماطم المتبلين، قوامه سميد وماء وزيت زيتون، الزيت المفضل لدى البربر المعروفة منطقتهم بزراعة أشجار الزيتون وعصره بعد جنيه في المعصرات التقليدية وتهيئته للبيع. وتعّد الكسرة أو"أغروم" أول وصفة مطبخية تلقنّها وتوّرثها المرأة القبائلية لابنتها. وفي العاصمة الجزائر بالأخص في أحيائها الشعبية العريقة، بالقصبة وبلكور وسالم باي وباب الوادي وسوسطارة، يحتل "خبز الطاجين" أو"خبز خمير" أو"خبز فطير" المائدة الرمضانية في وقت معروف عن سكان العاصمة استهلاكهم الكبير لل "الباقيث الفرنسية". نوع آخر من خبز الكوشة وفي بلاد الشاوية أصناف كثيرة من الخبز التقليدي على رأسها "ثامتونت" أو الرقاق (القاف تنطق مثل الجيم المصرية) و"المغموم "الذي يتم طهيه ما بين وعائين حديديين على نار حطب تحيط بكل جنباته، ولدى سكان "وادي ميزاب" في الجنوب الجزائري خبزهم التقليدي المفضل في رمضان وهو "خبز الدار" و"خبز الكوشة" الذي يرافق "شربة الفريك"، وفي مناطق أولاد نايل تتربع "خبزة الملّة" على عرش بقية اصناف الخبز التقليدي هناك، و"الملّة" قوامه سميد الشعير أو دقيق القمح، وعند سكان الأطلس البليدي وجبال شنوة غرب العاصمة الجزائر تعود أنامل النسوة إلى إعداد خبز "الزراطة" المطعم بزّريعة (حبوب) البسباس (الشمر) أو "خبز المَقلَة" وهو خبز مصنوع من مزيج من الطحين الأبيض والسميد المتوسط يخّمر لساعات ثم يوضع في مقلاة مع قليل من زيت الزيتون أو الزيت النباتي ليحمّر. والحقيقة أن الكثير من أنواع الخبز التقليدي الجزائري الأصيل الذي يعاود الظهور فوق المائدة الرمضانية الجزائرية تتفّنن النسوة في تطعيمه بشتى أنواع الحبوب أو الأعشاب اليابسة ذات المنافع الصحية مثل حبات السانوج (الحبة السوداء) وحبات حلاوة (اليانسون) أو حبات الجلجلان (السمسم) والعرعار والإكليل والزعتر والخزامى والشوفان. ويرتفع الطلب خلال رمضان دون غيره من أشهر السنة على الخبز الأسود، وقوامه إماّ شعير أو نخالة (جودر) أو قمح صلب كامل غير منزوعة القشور لمنافعها الصحية الكبيرة ليس للمرضى فقط أو للذين يتّبعون الحميات الغذائية لكن للأصحّاء كذلك مثلما تبيّنه التقارير الطبية التي تتحدث عن احتواء هذا النوع من الخبز الغامق اللون لكميات مهمة من الألياف والسكريات البطئية والنشاء. ويتهافت كبار السن على وجه الخصوص في رمضان على اقتناء "خبز الشعير" من المخابز التي باتت تزاحم البيوت في إعداده، وعادة ما يباع "خبز الشعير" في رمضان بضعف ثمن الخبز التقليدي المصنوع من السميد العادي أو الطحين الأبيض نظرا لمنافعه الصحية وبالأخص للذين يعانون من ارتفاع معدلات الكولسترول. ولقد أطلق محبو الخبز التقليدي الجزائري بالأخص خبز الشعير والقمح والشوفان منذ أزيد من ست سنوات المسابقة السنوية الكبرى للخبز التقليدي تحتضنها سنويا عاصمة الغرب الجزائريوهران بالتنسيق بين الاتحاد العام للتجار والحرفيين الجزائريين وغرفة الصناعات التقليدية والحرف، وتوفّر المسابقة فسيفساء غاية في الجمال من الخبز التقليدي تتنوع ألوانها وأشكالها ومذاقاتها أيضا تعكس مدى غنى الموروث المطبخي الجزائري فيما يتصل بصناعة الخبز التقليدي. خبز الرُخسِيس خبز الدار خبز الملّة