إن الرئيس التركي: أردوغان، لا يتصرف على هذا المستوى المخجل من النزق السياسي بصورة عفوية أو عابرة، بل يتصرف وهو واع بهوية ممارسته الاستعلائية، إذ هو يستبطن في داخله كل رموز الطغيان السلطاني القديم، ويتمثل كل أولئك المتجبرين من الطغاة الذين لا يكف عن التذكير بهم في كل مناسبة. هل نقول: ما بعد الإخوان؛ فنكشف عن وجه واحد، أو نقول: ما بعد (الثورة)؛ لمن يؤمن بأن ما حدث منذ 25 يناير وإلى 30 يونيو كان ثورة بحق، ولم يكن مجرد موجة من الاحتجاجات الغاضبة؟. كلا السؤالين يملك مشروعيته وفقاً لزاوية الرؤية، وكلاهما من شأنه أن يُؤشكل السؤال الديمقراطي من حيث ارتباط أولئك(الإخوان) وتلك (الثورة) بالمعنى الديمقراطي، وخاصة بالمعنى الذي يجري تداوله في الفضاء السياسي العربي اليوم. فال(ما بعد) هنا هو لحظة/ مسافة انعتاق أو انفصال من مرحلة لها هويتها الخاصة المؤطرة بالحقيقة أو بالوهم، في الوقت الذي هو فيه تدشين لانسراب حُرٍّ في مسار مفتوح على أكثر من احتمال، بحيث لا تغدو الديمقراطية فيه إلا خياراً/ احتمالاً قابلاً للانزواء أو حتى للانمحاء، لا من خارطة العمل/ الممارسة فحسب، وإنما من خارطة العمل ومن خارطة التفكير على حد سواء. هل كانت الديمقراطية وَهْماً خَادِعا؛ لأن (الثورة !) كانت وَهْماً مُخادِعاً؟. لا شك أن وَهْم الثورة خلق ثورة في الوهم أو في التهويم، ومن ثم، لم يكن الصراع صراعاً على حقائق موضوعية تُوازي حجم الرهانات عليها، بل كان مجرد صراع على حزمة من الأوهام المقدسة التي طال أمد التّبتل في محاريبها من أجل أن تجود بمعجزة تبعث الحياة في سكان القبور، بعد أن أصبح زمن المعجزات بقضه وقضيضه من سكان القبور؟ إذا كان الإنسان المصري يؤكد لنفسه قبل أن يؤكد لغيره أنه لم يخاطر بروحه في تلك الاحتجاجات الغاضبة (الثورة!) لترجع مصر إلى الماضي، إلى ما قبل زمن فوران الاحتجاج الغاضب، وأنه إنما خاطر وغامر بل وقامر لتسير به مصر أو ليسير بها إلى المستقبل الواعد بالأمل. هذا ما يؤكده بكل إصرار أي مصري حر. لكن، لماذا تأخذه الطريق دائما، ورغم كل هذا الإصرار المتحدي في الاتجاه المعاكس للمسار الذي يجترحه على مستوى الوعي النظري المباشر؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتناسل أسئلة دونما توقف، أسئلة حيرى بقدر ما هي ملغومة، أسئلة قابلة للانفجار على أكثر من صعيد. لكن، ما يهمنا هنا هي تلك الأسئلة المركزية التي تستطيع تأطير الرؤية رغم أنها تختزلها في الوقت نفسه ؛ لنصل إلى رسم ملامح لما جرى ويجري، ولما يعد به المستقبل القريب. هناك أربعة أسئلة تنتظم المسار الزمني للأزمة الراهنة في مصر، وهي مُترابطة عضوياً في معظم مساراتها المعلنة، أو المتاحة لمحاولات البحث والاستقصاء. إنها الأسئلة التي تبدأ بالسؤال التأسيسي الذي لا يمكن تجاوزه في أية محاولة من محاولات الاستبصار: لماذا لم تكتمل الثورة، أو على نحو أدق : لماذا لم تتحول موجة الاحتجاجات الغاضبة التي أطاحت بالرئيس مبارك إلى ثورة حقيقية مكتملة الأركان، لماذا لم تصل (الثورة) إلى نهايتها كثورة؛ أي إلى نهايتها في حال استحقت هذا الوصف الذي لا زال استحقاقه موضع خلاف؟ يأتي السؤال الثاني ليطرح إشكالاً آخر مرتبطاً بطبيعة الوعي الكامن خلف ذلك الزحف الجماهيري الغاضب، وهو سؤال يتحدد في الآتي: لماذا ارتمت الجماهير التي أنهكها الاستبداد والقهر والفقر والاستعباد على شطآن الإخوان، مختصرة كل المسافات الحرجة التي كان يجب عليها أن تقطعها؛ لتتجاوز الأفق السياسي للإخوان ولما سوى الإخوان؟ أي لماذا كان الإخوان وهم أفق تاريخي محدود، ماضوي، لا مستقبلي يمثلون مستقبلاً واعداً في وعي أولئك الخارجين للتو من هيمنة الإيديولوجيات الاستبدادية / الشمولية التي لا تختلف كثيراً عن إيديولوجيا الإخوان الشمولية؛ حتى لقد بدا الأمر وكأن مُبدعي تلك الاحتجاجات الغاضبة (الثورة!) غير مؤهلين لمزيد من الإبداع، كأنما قد عقمت قرائحهم عن ابتكار ما يتجاوز الشعارات الإخوانية الساذجة أشد ما تكون السذاجة؛ مع أنهم الكتلة الجماهيرية الغنية بنشطاء الفكر والسياسية والقانون؟ وهنا يأتي السؤال الثالث: لماذا لم ينجح الإخوان، رغم كونهم الخيار الشعبي لجماهير ما بعد الثورة؟ وهذا سؤال لا تقف نوازعه الإشكالية عند حدود الفشل الإخواني، بل تمتد؛ لتساؤل الفشل الجماهيري. فكون الخيار الشعبي كان خياراً إخوانياً؛ يعني أن مساءلة الفشل هي مساءلة جماهيرية قبل أن تكون إخوانية تحديداً، إذ لا شك أن الذين اختاروا الإخوان لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم تصوروا أنهم الأنسب (طبعا، في حدود الخيارات المتاحة) من بين خيارات أخرى لا ترقى لمستوى الطموح الجماهيري المتوهج بشعارات الاحتجاج على القهر والاستعباد، وهي الشعارات التي كانت تتوسل الديمقراطية تحديداً للخروج من نفق الجحيم. معنى هذا، أننا عندما نقول: لماذا لم ينجح الإخوان، فنحن نقول: لماذا لم ينجح الخيار الجماهيري في مرحلة حاسمة من مراحل التحرر الذي يتغيا الانسلاخ من عصر الثقافات والأنظمة الشمولية؟، لماذا فشلت الجماهير في الخطوة الثانية التي كان من شأنها أن تحدد مسيرة ما تبقى من (الثورة)؟ ونحن هنا، في هذا السياق تحديداً، لا بد أن ندرك جيّدا أن الشعب الذي وضع ثقته في المسار الإخواني هو ذاته الشعب الذي انقطع نَفَسُه الغاضب / الثائر، ولم يستطع التحليق بعيداً عن فضاءات العهد القديم، والإخوان أحد مكونات العهد القديم. بعد هذا يأتي السؤال الرابع: لماذا وقع الانقلاب، بصرف النظر عن ملابساته المفتوحة على فضاءات تأولية قابلة للخلاف. فالانقلاب إذ وقع في لحظته الزمنية الفاصلة؛ وقع متمدداً فيما هو أبعد منها، أي ضمن مسار مرتبط بالأسئلة السابقة. فلو اكتملت الثورة وبلغت غايتها(وغايتها هي محركها، هي قوة الدفع الحقيقية لأولئك الشباب المحتج)؛ لم ينتخب الناسُ الإخوان، ومن ثم لم يفشل الإخوان، ومن ورائهم الجماهير التي طرحت فيهم ثقتها بصورة عمياء؛ ففشلت بفشلهم، واضطرت للانقلاب عليهم. ولو لم يحدث هذا وذاك لم يكن الانقلاب ليقع؛ لأنه بقوة مشروعية النجاح، نجاح اكتمال الثورة، ونجاح إدارتها في المراحل التالية لن يكون في حدود الإمكان؛ مهما كانت مبررات القوة، وأياً كان منطق السلاح. هذه الأسئلة الأربعة تعكس أربعة كوارث عقلية، وهي بدورها تكشف عن المأزق الحضاري الذي ينتظم الوعي العام. فالإخوان كانوا بحق مشكلة كبرى، ولكنهم لم يكونوا وحدهم المشكلة، ولن يكونوا آخر فصولها. إنها أسئلة تلامس أبعاد الأزمة في وجودها المركب. ولذلك فهي تكشف عما هو أبعد منها، إنها تعكس أزمة وعي، وعي مأزوم كشف الإخوان بسلوكياتهم عن وجهه الكالح يميناً، بينما يكشف التيار المضاد بسلوكياته عن وجهه الكالح شمالاً. ولا فرق بين هؤلاء وأولئك إلا هوية الشعار. كلما تعمقنا في مقاربة الأزمة الراهنة يتأكد لنا أن المعضلة كامنة في بنية العقل الذي لا زال تقليدياً متخلفاً حتى عند مُدّعي التنوير ومناضلي التحرير، أي أن مأساتنا كعرب ليست في خياراتنا الإيديولوجية الخاطئة فحسب، وإنما في طبيعة البنية الذهنية التي نستوعب بها هذه الخيارات على اختلاف توجهاتها، والتي كثيراً ما تنقلب إلى خيارات ظلامية طغيانية موغلة في كل ما يتنافى مع بدهيات الحداثة والتنوير، في الوقت الذي ترفع فيه راية الحداثة والتنوير. من حقنا أن نتخوّف من مستقبل يستبطن فيه دعاة الديمقراطية كل ما يناقض أصلها الفلسفي الذي يمثل هويتها الأساسية، والتي تضع الإنسان كقيمة في منزلة الحقيقة الأولى. نقولها وبكل ألم : نحن اليوم مرتابون بأولئك الذين طالما تشدقوا بقيم الديمقراطية ورفعوها إلى درجة القداسة، ونتوقع للأسف أن يكونوا هم أول من يُدشّن مرحلة تفريغها من محتوياتها، بدليل ما نراه ونسمعه من لغة إقصائية، بل وعدائية مشحونة بطابع طغياني واضح ينزّ كراهية وحقداً، لغة لا تؤمن بالإنسان إلا وفق شروطها اللامعرفية، وتحديداً تلك الشروط المتضمنة كل ما يحقق مصالحها الدنيا والمباشرة، وربما المرتبطة بتوافه الأشياء. لا بد أن نعيد الأمور إلى مدارها الأصلي المتمحور حول الإنسان. لا بد أن نبدأ من حقيقة أن موجة الاحتجاجات الغاضبة (الثورة!) في صورتها الأولية كانت تضع الإنسان في صلب اهتماماتها. لكن، فيما بعد صعد الانتهازيون من تيارات الأسلمة ومن غيرهم إلى حيث يمكن قطف (أو خطف) ثمار الثورة التي بدت واعدة بكثير من مباهج السلطة التي طالما نظر إليها هؤلاء الانتهازيون من بعيد وهم يمضغون مرارة اليأس والحرمان. الإنسان أولاً، والإنسان ثانياً وثالثاً ورابعاً و...عاشراً، ثم تأتي من بعد ذلك بقية الأشياء، حتى المُصنّمات والمقدسات من الأفكار والأشخاص والأشياء لا يحق لها أن تأتي إلا بعد ذلك تالية للإنسان، بل وأن يكون استحضارها أو تغييبها مشروطاً بما يتحقق منها للإنسان سلباً وإيجاباً. وهذا ما كان غائباً عن كل الممارسات النظرية والعملية لكل التيارات التي تصارعت على وَهْم السلطة في مرحلة ما بعد سقوط رأس النظام. إذن، الديمقراطية ليست مجرد شعار جميل يتَزَيّا به عشاق العمل السياسي؛ دون أن يكون له رصيد ثقافي ووجداني ومؤسساتي، رصيد متجذر في وعي الإنسان كما هو متجذر في واقع الأعيان. الديمقراطية تستعصي على الاستنبات في الواقع الطبيعي للإنسان؛ لأن الإنسان في مستوى وجوده البدائي الأول ليس ديمقراطياً، بل هو على الضد من ذلك، إذ يحتاج إلى مرحلة طويلة من الإعداد الثقافي والوجداني والضبط المؤسساتي حتى ينصاع لقوانين الثقافة الديمقراطية، كما يحتاج لمرحلة أطول حتى تصبح الديمقراطية وعياً عاماً حاكماً للرؤى الكلية التي يصدر عنها المُتصوّر الإنساني. لا يمكن أن تخرج بقفزة استثنائية من أجواء استبدادية خانقة إلى رحابة الأفق الديمقراطي. لا بد من مراحل ودروس، لا بد من خيبات وإحباطات تعترض الطريق، لا بد من تجارب تستبقي ما يمكن مُراكمته لصالح مسيرة البناء الديمقراطي، وتنفي ما يثبت أنه من عناصر الارتداد إلى عوالم الاستبداد. لقد رأينا في مصر كيف أن الزمن السياسي لما بعد مبارك هو ذاته الزمن السياسي لمبارك، وأن زمن الإخوان هو ذاته زمن الإخوان، وأن ما بعد الإخوان هو زمن الإخوان بقدر ما هو زمن مبارك. فكل المراحل ذات هوية سياسية واحدة في عمقها؛ حتى وإن تنوعت الوجوه السياسية واختلفت لغة الشعارات المعلنة. فالواقع أن طبيعة الأداء واحدة؛ رغم كل التحولات وكل الأمواج الطافية على سطح تيار السياسة الأصيل، والذي تكمن أصالته في كونه تمثيلاً أميناً لتاريخ الاستبداد العربي المرتبط بتاريخ التخلف الطويل. إن إدانة ما حدث بوصفه انقلاباً فحسب، يغفل كثيراً من أرقام المعادلة في الواقعة السياسية الراهنة، التي لا يعدو الانقلاب أن يكون رقماً من أرقامها الصعبة. ومن هنا يأتي الاصطفاف الغبي أحادي الرؤية (مع أو ضد) متجاهلاً كل ما سبق طرحه من أسئلة تكشف عن حقيقة الوضع السياسي المعقد على مستوى الواقع؛ بقدر ما هو معقد على مستوى الاحتمالات التي قد يكون بعضها ذا طابع كارثي في تصورنا المبدئي لها، فضلاً عن كونه مفتوحاً من زاوية بعده الكارثي على المدى المجهول. المتعاطفون مع الإخوان، سواء من المُتأخْونين أو من أولئك المتاجرين بمواقفهم لأهداف سياسية خاصة، لا يريدون أن يطرحوا كل ما سبق من أسئلة استشكالية على طاولة البحث، كما يريدون رؤية ما حدث ويحدث على ضوء مسيرة الفشل الإخواني الشامل الذي قاد إلى ذات النتيجة التي يُدينونها بالإطلاق. لا أتحدث هنا عن المواقف الفردية أو ذات الطابع الحركي المتحزب فحسب، بل وهو الأخطر عن مواقف دولية لا تمتلك حتى القدرة على تجاوز رعونة الاحتجاج. ولعل الموقف التركي المتخبط، والذي ظهر جلياً في التشنج السياسي للرئيس التركي: رجب طيب أردوغان، الذي لم يتحمّل خسارته لأحد المحاور الرئيسة (تيارات الإسلامي السياسي) التي كان يعمل عليها في محاولة بسط النفوذ (العثماني!) الجديد على العالم العربي؛ فكان غضبه المتشنج كاشفاً عن رهاناته الخاسرة التي أجهضها الانقلاب، أو بلغة تَسْبِيبيّه أجهضها الفشل الإخواني الذي برّر على أكثر من مسار مسيرة الانقلاب. لقد قلت في المقال السابق: إننا يجب أن نملك إرادة الفهم، قبل أن نضحك أو نبكي لما حدث. لكن، في عالم السياسة، وخاصة السياسة المرسومة على ضوء مطامع استحواذية متشرعنة ذهنياً بخلفيات استعمارية بائدة (كما في التطلعات التركية الأردوغانية الراهنة)، لا يهم الفهم بقدر ما يهم تطويع الواقع لتحقيق المشروع الاستعماري المأمول؛ حتى ولو كان ذلك على حساب وطن بحجم مصر، وصل إلى مرحلة لا تحتمل التلاعب به ولو على مستوى الاستقطاب الشعاراتي ، ولا أن يتم تجيير بؤسه لحسابات الطامحين. لا يخفى أن أردوغان يُروّج لنفسه (كما يُروّج له آخرون!) في العالم العربي منذ سنوات بوصفه السلطان العثماني الذي يمتلك حق الوصاية على هذا العالم الذي عانى ويلات الاستعمار العثماني لما يناهز خمسة قرون هي أسوأ عصور الظلام وأبشع أزمنة الانحطاط. إن السلطان العثماني الجديد لا يُروّج لصورته تلك على مستوى الدعاية الخارجية فحسب، بل ويوغل في هذه الدعاية في الداخل التركي أيضا، فهو قد بدا في أكثر من مناسبة في صورة المنافح المتشنج عن تاريخ أباطرة كانوا نماذج عليا في عالم الطغيان والاستبداد. وكلنا يتذكر موقفه من مسلسل (حريم السلطان) الذي كشف على نحو حذر وضمني، بل ومعتذر أحياناً عن عصور القهر والاستبداد والاستعباد التي لا تزال آثارها المدمرة ماثلة للعيان في كل بقعة مرت عليها عربة الاستعمار العثماني البائد. إن الرئيس التركي: أردوغان، لا يتصرف على هذا المستوى المخجل من النزق السياسي بصورة عفوية أو عابرة، بل يتصرف وهو واع بهوية ممارسته الاستعلائية، إذ هو يستبطن في داخله كل رموز الطغيان السلطاني القديم، ويتمثل كل أولئك المتجبرين من الطغاة الذين لا يكف عن التذكير بهم في كل مناسبة، بوصفهم الأجداد العظام، وبوصفه الحفيد الذي سيعيد مجد الامبراطوريات البائدة ولو على مستوى الاستعمار غير المباشر، الاستعمار المتمثل بالاحتواء (المهيمن!) لكل مسارات التكتل السياسي في العالم العربي. من هنا، يصبح الحِجَاجُ الأردوغاني بالمبادئ الديمقراطية مُعبّراً عن مفارقة كبرى؛ لأن من يُقدّس أباطرة الطغيان في القديم، لا يمكن أن يملك ولاء حقيقياً لديمقراطية صادقة تتغيا الإنسان كهدف أولي. ونحن عندما نتأمل الشخصية الأردوغانية نجد أن صورة (السلطان العثماني، الطاغية المستبد، المستهتر بالإنسان) تتلبسها في العمق، حتى وإن فرضت عليها المواضعات السياسية في الداخل التركي نوعاً من الالتزام الديمقراطي، إلا أنها في جوهرها من أعدى أعداء الديمقراطية. ولعل ما حدث أخيراً من احتجاجات في تركيا وموقف أردوغان نفسه منها (الموقف البوليسي العنيف المنافي لأبجديات الممارسة الديمقراطية)، وما سبق من مواقف تتعلق بمذابح الأرمن أو بالمسألة الكردية...إلخ كلها تكشف عن حقيقة موقفه من الديمقراطية ذاتها، وأن موقفه وإن بدا وكأنه مرافعة عن الديمقراطية في مصر إلا أنه في جوهره موقف براجماتي لا يشتغل إلا قاعدة ذهنية راسخة في عالم الطغيان. لا بد أن نكون حذرين في قراءة المواقف، وفي التعاطي مع السياسات التي تحاول الاشتباك مع هموم عالمنا العربي. فإذا كنا اليوم متوجسين من خطر التمدد الفارسي المتمثل في الخطر الإيراني، فإن الخطر التركي (وخاصة في الحقبة الأردوغانية المتماهية مع الاستبداد العثماني التوسعي ) لا بد أن تكون له الأولوية في خارطة استشعارنا للخطر؛ لأنه (الخطر التركي) ولأسباب جيوسياسية وتاريخية ومذهبية، بل واقتصادية، أقدر على الاختراق، ومن ثم الأقدر على تحويلنا إلى مجرد مُمولين للعبث الطغياني المستهتر في مسلسل (حريم السلطان)، بل وربما إلى مادة للاستهلاك في هذا المسلسل الأردوغاني الذي لا يبتعد كثيرا في وقائعه العينية وفي طموحاته عن المسلسل التاريخي الذي يعكس حقيقة السلطان الجديد، لا السلطان القديم!