مرت ستة وعشرون عاما على وفاة طاهر زمخشري، وما أسرع ما تمضي الأيام، وقد عرفته وأنا في الثانية عشرة من عمري، وكان صديقا لوالدي، وكان يتردد على بيتنا في الأمسيات، وفي يوم من الأيام عند إحدى زياراته، وجد بين يديّ ديوان ابن الرومي، فصرخ بي قائلا: حذار من شؤم ابن الرومي وكيف أنّ العقاد سجن بعدما كتب عنه، ولا أذكر ما حدث لكامل كيلاني وعبدالرحمن شكري، فقلت له أنا لا أؤمن بالشؤم، فقال لي مادمت مصرا على قراءته، فاقرأ هذه القصيدة التي مطلعها: يا خليليّ تيمتني وحيد .. ففؤادي معنى بها عميد ولاحظوا الجناس غير التام بين وحيد وعميد، ثمّ قال لي ايضا اقرأ هذه القصيدة التي يرثي فيها أوسط أبنائه ومطلعها: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي .. فجودا فقد أودى نظيركما عندي ولاحظوا الجناس غير التام بين يجدي وجودا وبين يجدي وعندي، وبعد أيام من قراءة شعر ابن الرومي وقعت في عتبة باب بيتنا وكسرت يدي اليمنى، ومع ذلك لم أقلع عن قراءة شعر ابن الرومي، ومضت الأيام وسافرت للدراسة في مصر، وتعرفت على شقيقة زميلي المصري في الدراسة وخطبتها من والدها، فطلب منّي مهلة للتفكير في الموضوع، ومضت ثلاثة أشهر دون أن يرد عليّ، وأدركت أنه لم يوافق على طلبي، ولكن بعد أيام جاءني زميلى وقال لي إنّ والده وافق على زواجي من ابنته، وعرفت فيما بعد أنّ والدها قابل طاهر زمخشري في مطبعة المنياوي القريبة من بيته في العتبة، وأنه سأله عنّي وعن عائلتي، ويبدو أنّ الزمخشري أطنب في مدحي ومدح عائلتي، وتمّ الزواج، ثمّ ماذا؟ مضت الأيام ومات طاهر زمخشري، وقبل عام ماتت زوجتي، وأنا الآن أعيش وحيدا في باريس منفيا من نفسي وعن نفسي.