يا نوت عنا اظعونكم ليه شالت يا حيف تم افراقنا يا حبيبي عقاب العواجي و(عقاب) بن سعدون العواجي أشهر من نار على علم، (ونوت) محبوبته، وقد تزوجها بعد قصة حب درامية مثيرة، واشتهرت هذه القصة واستفاض ذكرها وشاع بين القاصي والداني، وصارت مثلا يُضرب، قال نومان الحسيني في أعقاب قصة طريفة جرت له مع فتاة جميلة صادفها في إحدى رحلات قنصه: ألهتني اللي كن عينه سنا موت نجلٍ عيونه.. والثنايا مغاتير تقول وش قال العواجي على نوت شبه الطيوح اللي تحط المقاهير وقال عبدالله بن راجس: شربت كاس الصبر حلوه ومره وغنيت لي طاروق في راس مرقاب مرقاب ودّ كل عاشق يمره جددت به قصة غلا نوت وعقاب أحب عقاب «نوت» وكانت محجورة على أحد أبناء عمها، وكان يزورها نهاراً جهاراً ويحادثها وتحادثه حديثا عفيفاً لا تشوبه شائبة في حضرة أهلها وأولياء أمرها، فغضب خطيبها الذي حُجرت له، وغضب معه إخوته فتشاوروا فيما بينهم في شأن زيارات عقاب ل «نوت» ومحادثته إياها، فقرروا الذهاب إلى والدها ومفاتحته في هذا الشأن، وأبدوا له امتعاضهم الشديد من ذلك، وأخبروه أنهم لن يسكتوا وأنهم سيمنعون «عقاب» من زيارتها وإلا قتلوه، فنظر والدها إليهم نظرة عميقة وقال كلمة مؤجزة حكيمة قال: «يا ويلكم من عقاب.. ويا ويلكم بعد عقاب!» والعبارة الأولى تحذرهم من بطشه لأنه شجاع لا يجارى وقتله صعب، والثانية تنبههم إلى الشؤم الذي سيحل بقبيلتهم بعد قتله إن تمكنوا منه، فعقاب هو مجد القبيلة وفخرها وقتله إيذان بضعفها وانخذالها وهوانها، وتطميع لأعدائها بالتجرؤ عليها، فهو حاميها ورافع لواء عزها في ذلك الوقت. وبعد تفكير وتأمل غلّبوا جانب العقل وقرروا التخلي عن فكرة قتله ومغاضبته في شأن نوت، وأعلنوا الرضا بزواجه منها وهي التي كانت تعشقه كعشقه إياها أو أشد، وقد قابل عقاب هذا الجميل بجميل مماثل، فزوّج من تخلى له عن نوت من أخته (حرفة) بعد أن طلب من ابن عمه (حاجرها) أن يتخلى عنها خصوصاً أنها لا تحبه، وكان قد امتنع عندما عرض عليه الأمر، وقال: «والله ما أطلقها ولو على قطع رقبتي» وعندها غضب عقاب وأقسم له أنه سيقطع رقبته في الحال إن لم يفعل، وهو معروف بأنه إذا قال فعل، فلما رأى ابن عمه منه الجد والعزم خاف وطلقها في الحال. وسيرة عقاب بن سعدون العواجي وبطولاته وقصائده الحلوة في نوت مشهورة متداولة، ومنها القصيدة التي مطلعها هذا البيت الذي نسيح فيه هنا: يا نوت عنا ظعونكم ليه شالت يا حيف تم افراقنا يا حبيبي وهو مطلع قصيدة عذبة قالها عقاب في محبوبته نوت. والظعون: الظاعنون، وهم الماضون المغادرون، جاء في اللسان «الظَّعْنُ: سَيْرُ البادية لنُجْعَةٍ أَو حُضُور ماءٍ أَو طَلَبِ مَرْبَعٍ أَو تَحَوُّلٍ من ماء إلى ماء أَو من بلد إلى بلد، وقد يقال لكل شاخص لسفر في حج أَو غزو أَو مَسير من مدينة إلى أُخرى ظاعِنٌ». شالت: غادرت ومضت. ياحيف:كلمة تعجب وتحسر وعتاب، متداولة في لهجة بادية الشمال. تم افراقنا: تحقق. والحق أن هذا البيت وإن يكن جميلا إلا أنه ليس في القصيدة هو الأجمل، بل البيت الأخير الذي يقول: أو إنّ دونك مرّح الخيل جالت لازم يجيبك حظنا من نصيبي منه أجمل وأروع، ومنه أعذب وألذ وأمتع، وجمال هذا الأخير تجلى في شطره الثاني الذي يعادل قصيدة بأكملها، ولعل سِرَّ جماله الذي فجّر ينبوع إبداعه، وشطر نواة روعته وبسط جميل شراعه، يكمن - كما تستحليه ذائقتي، في كلمة (لازم)، وموقعها في هذا السياق يحتاج إلى مقالة طويلة لتشقيق مسارب حسنها الروحية، والغوص في بحور سحرها اللُّجّية، وتشريح عبق أريجها، ورصد مزايا رنينها في الروح وطعم ضجيجها، ذاك الذي يدغدغ مشاعر النشوة، ويرنّح في شعيرات الذوق مباهج اللذة، ويتعتع الفؤاد بخفة السكرة، من روعة السانحة من قمرية المعنى وفرادة الفكرة.. فهو شطر يمثل الجمال المستعرض الذي تتجلى فيه روعة الأدب، ولا يستطيع اقتناص معناه بهذا الأسلوب الذي كأنه يتحدى القدر بتأكيد القدرة على تحقيق المستحيل بالتصميم والعزيمة، ويستفز القارئ بهذا الإدهاش المخالف لرتابة الأفكار، القافز فوق حواجز المنطق، لا يستطيعه من الشعراء إلا الموهوب المطبوع على مغنطة الألفاظ، وتنضيب الأساليب لتبدو بصورة مغايرة للمعتاد. وهو معنى يأتي - كما أظن - مواتيا تقوده المصادفة بلا طلب، والشاعرية إذا درّت فتحت للقريحة مغاليق الإبداع، وفتحت لها مجال التخيّر من جواهره الخاطفة بجمال بريقها، وأغرتها بقطف زاهيات ورودها وشقيقها. لكني عدلت عن السياحة في أفياء هذا البيت، والسباحة في أجوائه، لأنه - للأسف - ليس حرا، فهو مقيد بما قبله متعلق به، وهو قوله: وان كان فرقاكم على القلب طالت نجيك فوق منثّرات السبيبي ناصلك لو من دونك القوم حالت من فوق قّبٍّ يرهجنّ الحريبي أو إنّ دونك مرّح الخيل... إلخ فضاعت روعة قوله (لازم يجيبك حظنا من نصيبي) في رق هذه التبعية، وصار يصعب ذكره منفردا عما قبله، بل قل يسخف، والمستشهد في غالب الأحيان لا يسعفه الموقف للإطالة، ولا الصبر على بيتين أو ثلاثة أو أكثر، خصوصا إذا أراد التعبير عن معنى ملهم محدد مثل «لازم يجيبك حظنا من نصيبي» في لحظة استطراب ورقص مشاعر. وحفّزني أيضا للسياحة في هذا البيت دون الآخر، حافز ثان وهو حافز لغوي - وشطر الجمال في الأدب «سحرلغوي» - وهذا الحافز هو توظيف عبارة (ياحبيبي) في آخره. والبيت بلا شك معناه جميل وأجمله التساؤل الذي حمل كل خفقات الروح من ألم، وحزن، وخوف، وتوجس، وعتاب، وإحباط، وأسف.. في قوله (ليه شالت؟) فالاستفهام هنا صاغه الارتياع، وزفرته الروح مشيَّعةً بدموع رائبة في محاجر العيون يحجزها سد منيع من التماسك، واستعابة البكاء واستكثاره على الرجل. أما عبارة (يا حيف تم افراقنا) فقد اختزلت كل معاني الفجيعة، وأفصحت عن وضوح هذه الحقيقة، حقيقة الفراق النهائي كما تصورها له نفسيته المختلة التوازن في تلك اللحظة العصيبة، وقد أوحاها له هذا الحدث المؤلم فألقاها جمرة حية مشتعلة في فؤاده المرتعش، وهذا هو حال قلب العاشق لا يعرف الوسط، فإما الإقبال التام أو الإدبار التام، وليس بينهما حيّز ولا برزخ، والحب الحقيقي غير قابل للتفاوت، وكل ما يُظَن أنه يقبل التفاوت منه هو في الحقيقة دخيل عليه تَسَمّى باسمه، وتلبّس بلباسه، واتخذ شكله، وليس منه، فهو إما إعجاب، والإعجاب منه ما يشتعل في لحظة حتى يقارب ويشابه ملامح الحب، ثم لا يلبث أن يخبو شيئا فشيئا لتعاوده حقيقته وطبيعته المختلفة عن الحب. وإما ميل روحي أو جسدي مؤقت، وهذا الميل يبلغ في بعض مشاهده العالية درجة التعلق الشديد حتى يظنه صاحبه الحب وهو ليس كذلك.. لماذا جذبتني كلمة (يا حبيبي)؟ لماذا.. وهي المستهلكة المبتذلة المستباحة في خطاب المشاعر اليوم! الجواب عندي هو: لأن قائلها «عقاب العواجي» البدوي الذي عاش قبل قرنين من الزمان في بيئة بدوية متصارعة، وهذا يعني لي قمة المفاجأة، وجسامة الحدث اللغوي.. فأنا لا أعرف في شعر البادية القديم على رقته وعذوبته من استخدم هذا المصطلح الحضري الحديث الرواج، ولا أعرف أن هذا النداء الرقيق بهذه الحروف كان مسجلا في معجم أساليب الشعر النبطي في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري فما قبل، لا في حاضرة ولا في بادية، وإذا كان يرد في لهجة الحاضرة غير الشعرية فإني لا أتصور أنه يرد في كل ميادين التعبير البدوي في ذلك الزمان، ومن هنا انبثقت مفاجأتي فأشرعت المداد لترجمتها وتسجيلها، فإن كنت مخطئا في التصور، فلا شك في أن تسرّعي، ومُزجى بضاعتي، وقلة اطلاعي لها الدور الكبير في افتعال ضجيج بلا ضجة، وتشدق وتفلسف وتهويل ممل من أجل أن الفارس الشجاع عقاب العواجي رحمه الله قال في إحدى قصائده: (ياحبيبي!). أخيرا.. هل كان لتربية عقاب في كنف أخواله في الشام أثر في تسرب هذه الكلمة الساحرة إلى لغته الشعرية؟ أظن أن في هذا جانبا كبيرا من الحقيقة والله أعلم.