من الاعتقادات الخاطئة والراسخة في الأذهان الاعتقاد بأن الشعر الجيد هو ما يبقى وأن الشعراء المُبدعين هم من يحتفظ تاريخ الأدب بأسمائهم وأشعارهم دون سائر الشعراء، وخطأ هذا الاعتقاد يؤكده وصول نماذج شعرية ضعيفة وهزيلة لشعراء ماتوا قبل مئات السنين، لكن ارتباط تلك القصائد والأبيات بأشخاص مُعينين أو بمُناسبات وأحداث مُعينة أسهم في تدوينها وحفظها دون الالتفات لمستواها وقيمتها الإبداعية، كذلك لا بُد من التأكيد على ما بدأت به حديثي من أن القصائد ذات المواضيع والأغراض الجادة كالمدح أو الغزل والوصف والهجاء الحكمة ليست هي المطلب الوحيد والدائم للمُتلقي. فإقبال المتابعين على قصائد هزليّة وهزيلة وعلى أبيات ركيكة كتلك الأبيات "الاستهبالية" التي يكتبها بكر هوساوي وغيره في توتير لا يدل بالضرورة على انحدار في الذائقة كما ذكرت سابقاً، كما أن حالته ليست حالة فريدة ونادرة كما يظن البعض، ففي عصور سابقة من عصور الشعر كان للشعراء "المستهبلين" جماهيرية ونجاحات تفوق جماهيرية الشعراء المبدعين، ولنا في سيرة وأخبار الشاعر العباسي أبي العِبر عبرةٌ وتأكيد على أن الهزل قد يُحقق للشاعر ما لا يُمكن أن تُحققه الجدّية والجودة في الشعر، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني) أن الشاعر أبا العباس محمد بن أحمد المُلقب بأبي العِبر "كان صالح الشعر مطبوعاً يقول الشعر المستوي في أول عمره، فترك الجد، وعاد إلى الحُمق والشهرة به، وقد نيف على الخمسين، ورأى أن شعره مع توسّطه لا ينفق مع مُشاهدته أبا تمام الطائي والبحتري وأبا السمط بن أبي حفصة ونظراءهم". يُخبرنا الأصفهاني إذن بأن أبا العبر قد سلك طريق الهزل والحماقة كطريق سهل العبور يُتيح له تحقيق الشهرة التي كان من المُستحيل أن يُحققها في وسط يعيش فيه شعراء عمالقة كأبي تمام والبحتري وغيرهما، ويُخبرنا أيضاً عن المكاسب الكبيرة التي حققها أبو العِبر بعد أن تحوّلت سياسته الشعرية من الجِد إلى الاستهبال، ويذكر بأنه "كسب بالحُمق أضعاف ما كسبه كلُ شاعر كان في عصره بالجِد، ونَفَقَ نفاقاً عظيماً، وكسب في أيام المتوكل مالاً جليلاً"..! وفي كل عصر لا بُد من بروز شعراء ومُستشعرين ينهجون نهج أبي العبر ويتّبعون نفس سياسته في تعويض ضعف مواهبهم وتدنّي مستوى قصائدهم باللجوء إلى الهزل والاستهبال لتحقيق النفوق أو الانتشار والوصول للشهرة بشكل سريع. أخيراً يقول الشاعر المبدع شبيب بن شاهر: نصوم ونصلي وندعي ونرجيك رضاك مكسبنا وعفوك رجانا موحدين وكلنا منك وإليك عساك يا غفار تغفر خطانا