أيُحاول بعضهم ترسيخ الاعتقاد بأن شيوع المدح والتملق للممدوحين أمر طارئ ومُستجد، وأن الشعراء الشعبيين هم فقط من برزت في أشعارهم ظاهرة الإسراف في المديح، مع أنه كان في كل عصر من عصور الشعر العربي شعراء يفرطون في المديح ويبالغون فيه ويحيطون ممدوحيهم بهالات من التبجيل، وكان المدح وما زال أوسع أبواب الشعر التي ولج منها الشعراء وحققوا من خلالها الشهرة والمكاسب بكل أشكالها، ويُشكل نسبة غير قليلة من مُجمل إنتاج أعظم الشعراء في الماضي الحاضر. إذا كان هناك عدد من الشعراء الذين يصرحون باتخاذهم للمدح كوسيلة للوصول لغاياتهم وتحقيق المزيد من المكاسب - أو تُصرح بذلك قصائدهم - تقابلنا العديد من النماذج لشعراء آخرين يُعبرون عن رفضهم القاطع للاستجابة لطلبات المدح، إذا كان الهدف منه مقصوراً على تحقيق مصالح أو مكاسب من دون أن يكون الممدوح جديراً بالمدح، من أولئك الشعراء المبدع هزّاع الشيباني - وهو شاعر مُتمكن تتميز أشعاره بالقوة والجزالة - الذي ينقل لنا في أبيات الرائعة التالية الأصوات التي تُطالبه بإتباع سياسية «مسح الجوخ» للحصول على مُقابل مادي أو (واسطة): قالوا علامك ما تناديه بالشيخ؟ حاول تجامل مثل مسَاحة الجوخ خلّ المبادي يا ولد وامدح الذيخ حتيش لو ما هوب بالفعل مطنوخ يملك من الميلان كثر الصلاميخ صمَ الحصا: ما بين رابغ وصلبوخ له واسطة مثل الطيور المكافيخ تحوم ولها في وزاراتنا فروخ ثم يأتي رده على هذه المُطالبات واضحاً ومُقنعاً، إذ يرفض استخدام شعره كوسيلة لمدح كل مُتكبر منفوخ أطلق على نفسه لقب (شيخ) وهو غير جدير به: قلت انتهيتوا: مدح زايف وتنَفيخ؟ عانوه ابو ذربٍ من المدح منفوخ شيخٍ مدام العصر ذا: «عصر تشييخ» لكنَ فيه شيوخ تفرق عن اشيوخ والمجد من حظَ الرجال المطانيخ راياتهم بيضا على كل شاموخ بالمختصر مانيب من يمدح الذيخ ما يمدحه حيٍّ وله راس مطنوخ ويتفق الشاعر المبدع ثامر شبيب مع الشيباني في اتخاذ موقف رافض لكل الأصوات المُطالبة باستثمار موهبته الشعرية لتملُق أصحاب رؤوس الأموال والمناصب: قالوا امدح شيخ والا امدح وزير لجل تكسب من مديحه فايده قلت أنا في خير وأحوالي بخير ليه أدوّر شي ماني رايده؟ أكره اثنين: المُنافق والحقير تستغل طيب الرجال الرايده ويختتم قصيدته ببيت يؤكد فيه على ذم كل من يُقيم علاقاته مع الآخرين بناء على مصالح وقتية: تدري وش معناة رجالٍ حقير؟ من يصاحب رجل لجل الفايده كما ذكرت في البداية فمن المُلاحظ تركيز أغلب الكُتاب والمُتحدثين عند ذكر الشاعر الشعبي على صورة الشاعر المُستجدي المُتملق، مع تجاهل شبه تام للنموذج المُقابل وهو نموذج الشاعر الرافض لاستغلال موهبته بشكل سلبي كما في النموذجين السابقين ونماذج عديدة غيرهما.