الهلال أمير الصحراء المبجل، هو الذي يعلن مواسمها ومواقيتها، وهو الذي يلوح لأنوائها، وهو الذي ينسج معتقداتها، وهو الذي يمرر خارطة الأيام لتلك التجمعات شبه الزراعية التي كانت تقطن الجزيرة العربية، فالشهر يتحدد برؤيته، واليوم في التقويم الهجري يبدأ زمنيا بعد الغروب. عيون أهل الصحراء معلقة بالسماء ومشرئبة نحو الأعلى، وقوافل مواسمهم استجابت لايقاع النجوم والكواكب التي تخطر فوق صفحة السماء مع حداء الأساطير والمخلوقات الخرافية والحكايات التي يحيكونها حول.. زمهرير المربعانية العجوز العابسة وقسوة هواء ابنها الشبط مقرقع الأبواب.. قبل أن يبزغ سعد السعود.. ولئن كانت الحضارات الزراعية جعلت أساطيرها في الحقل بين موت تموز (روح النبات ) وإعادة بعثه فإن الصحراويين الشاخصة أبصارهم نحو السماء استعاضوا عن خرافات آله الخصب بنجم سعد السعود السماوي الذي يرجع بحضوره (الماء في العود).. إلى أن تستوي الثريا فوق عرشها العلوي بينما القيظ.. في الأسفل يجلد المخلوقات. مواسم وأنواء الصحراء لها تقويم (كالندر) خاص بها لخصه الشاعر راشد الخلاوي في قصيدة طويلة مطلعها قال الخلاوي والخلاوي راشد عمر الفتى عقب الشباب يشيب حسبت أنا الأيام بالعد كلها ولا كل من عد الحساب يصيب حساب الفلك بنجم الثريا مركب يحرص له الفلاح والطبيب على وقع التوقيت الغروبي عندما تغرب الشمس يعشي الصحراوي ماشيته وساعته وينام ويتركها وحيدة في حقول الوقت تنظم أوقاته ومساراته، كان التوقيت الغروبي، توقيت القرية الهادئة التي تلوذ بحضن جبل وتغفو.. قبل أن يبعثر نسيج سكونها هدير قطار العصر. اختفى التقويم الزراعي ولم يعد سوى جملة شاردة تمر على لسان المسنين يبررون أو يفسرون لنا قسوة الحر في الخارج على كونها قدرا ملزما (طباخ لكروم العنب أو عذوق التمر)... تآكلت هذه الذاكرة، ولا أدري آخر ساعة يد حولت توقيتها من الغروبي إلى الزوالي، تخلت عن مواقيت القرية الخجلى، واستبدلتها بقوانين العصر أو التوقيت الزوالي، الإنجليزي القرصان المستعمر عسف مواقيت العالم نحو مدينته (جرينتش)، وأخبرنا بأننا لن نمنح فيزا دخول للعالم دون أن نتبع التوقيت الزوالي ودوائر العرض وخطوط الطول... فخطونا خطوة جديدة بعيدا عن مواقيت القرية. اشتراطات العصر بدأت عندما أصبحت نشرة الأخبار الرسمية بالتوقيت الزوالي .. وانتهت بعدما أصبحنا نوزع الإمساكية الرمضانية بحسب مواقيت خطوط الطول والعرض فوق خارطة القرصان المتعجرف. ذاكرة القرية تضمر وتصاب بالزهايمر فهي بعيدة عن العالم، بينما صافرة قطار العالم تهدر أمام بواباتنا.. إما أن نهرول لنركب، أو أن نتخلف عن اللحاق بالرحلة إلى الأبد. وإن كان التوقيت الهجري هو الذي نستعمله في دوائرنا الرسمية، فإن ضبطه وتنسيقه لايتمان إلا إذا وضعنا بجواره كلمة الموافق للتوقيت الجريجوري (الميلادي)، وكأننا فقط نتبارك بحضور جدنا المسن، ولكن القرارات تكون بيد ابنه المنضبط القوي، فموعد ميزانيتنا يتبع الجريجوري، ويومنا الوطني.. وإن قلنا بأنه أول برج الميزان كمسوغ !! فهذا يعني بأنه 23 سبتمبر لايتغير ولايتبدل كل عام. إنها اشتراطات الزمن والشيء الوحيد الثابت هو التبدل المستمر.. وضريبة ندفعها عند بوابة العالم . آخر خطوة بهذا الطريق إجازتنا الأسبوعية ..استبدلنا أيامها كي نقلص يوما يبعدنا عن العالم.. بعد أن اخترنا مركبته. *أيها الماضي لاتغيرنا كلما ابتعدنا عنك (محمود درويش). يحتدم نزال المواقيت كل عام عند بوابة رمضان.. هو المربع الأخير الذي ما برح يحتفظ بسلطاته وقوانينه قوانين أمير الصحراء المبجل.. ولم تحسم المنازلة بعد..