حرصت قبل الإجازة على جمع أكبر قدر من المقالات التي كتبت في موضوع قيادة المرأة للسيارة، سواءً من قبل المدافعين عن ذلك الحق أو من قبل الرافضين له وهم الأكثر وجلهم والحمد لله ليسوا من أهل الرأي الذين يعتد بطرحهم وإلا لعادت المرأة إلى الوراء عشرات السنين. ولقد لفت نظري عنوان المقال الذي كتبه الأستاذ تركي السديري «ماذا فعل ابن زلفة» مستنكراً فيه الهجمة الشرسة التي تعرض لها الدكتور محمد آل زلفة بسبب طرحه لهذا الموضوع الشائك الذي حُمّل أكثر مما يستحق فهو موضوع بسيط في ذاته ولو كان قد اتخذ قرار بشأنه منذ ثلاثين سنة مضت لما تضخم إلى هذا الحد وصار ككرة الثلج وبات الحديث عنه من المحرمات المخرجة عن حياض الدين في عرف بعضهم . وجواباً على سؤال الأستاذ السديري عمّا فعل ابن زلفة ؟ أقول لقد فعل ابن زلفة ما لم يجرؤ كثيرون على فعله فلقد بادر بإلقاء حجر في البحيرة الراكدة التي أسنت مياهها لطول ركودها وصار مجرد الاقتراب منها يعد انتهاكاً لحرمات الأخلاق والشرف والأعراض، لقد كان الدكتور آل زلفة أكثر جرأة عندما اقترب من التابو واخترقه وأعلن عن حق المرأة في قيادة سيارتها بنفسها وتجنيب بعض الأسر وصغار الموظفات الأعباء المالية التي تترتب على وجود سائق أجنبي، حتى بات من المحتم قدوم سائق جديد على بلادنا مقابل نيل أي مواطنة وظيفة مهما كان العائد المادي الذي تحصل عليه. أما موقف بعض أعضاء مجلس الشورى من القضية فهو أكثر المواقف التي تداعت إثر ذلك إثارة للدهشة والعجب، حيث بدا الدكتور آل زلفة وكأنه أدخل يده في عش الدبابير فآثر بعضهم الانسحاب حتى لا تصيبهم لسعاتها! وإني لتعروني دهشة من موقفهم ذلك أو ليست المرأة نصف المجتمع الذي يمثله هؤلاء الأعضاء ؟ ألا تستحق المرأة أن يوجد منهم من يتحدث عن قضاياها رفضاً أو قبولاً ما دامت قد غيبت قسراً عن مجلسهم الموقر؟. وأما الآراء التي قيلت في ذلك الشأن من قبل بعض الكتاب وقراء الصحف فكثيرة، واللافت أن أغلب الذين كتبوا رجال، أما النساء فلقد آثرن الصمت إما اعتقاداً بأن القضية لا تستحق كل ذلك الصخب وأن هنالك ما هو أهم منها مثل حق المرأة في الاحترام والتقدير والاعتراف بوجودها وكثير من القضايا التي ينبغي أن تعطى حقها من الاهتمام، وإما يأساً من أن القضية غير قابلة للحل ولهذا فإن الحديث عنها ليس إلا عبثاً وتضييعاً للوقت . وقد تبارى الرجال في التصدي للقضية بين مؤيد ومعارض، أما المؤيدون فلقد بنوا تأييدهم على أن منع المرأة من القيادة لا يستند إلى نص ديني وليس إلا مراعاة للنمط السائد والمحافظة على مألوف العادات والأعراف، كما أنه لا يشكل انتهاكا لصرح القيم والأخلاق ولنا عبرة في النساء الخليجيات اللاتي لم تؤد قيادتهن للسيارات إلى وقوعهن في براثن الرذيلة، ويسوقون تساؤلات منها هل نجم موقف الرافضين عن سوء ظن بنساء هذا البلد ؟ أم عن اعتقاد بأنهن خلقن من عنصر غير العنصر الذي خلقت منه الأخريات ؟ وأما الرافضون فلقد اتخذوا المواقف نفسها التي اتخذها أقرانهم في موضوعات سابقة كفتح مدارس البنات وفتح محطة التلفزيون وغير ذلك استناداً إلى مبدأ سد الذرائع وما قد يقود إليه هذا الأمر من مفاسد ومخاطر! متجاهلين أن كل جديد يحمل في طياته كماً من السلبيات توازي كماً آخر من الإيجابيات، ألم تصاحب الهاتف عندما عُمم كثير من السلبيات ليس أقلها المعاكسات التي استمرت إلى أن أدخلت خدمة إظهار رقم المتصل مؤخرا ؟ وألم يكن لمدارس البنات عندما فتحت سلبيات كان على رأسها خروج البنات يومياً من بيوتهن وتعرضهن لمضايقات الطريق في مجتمع اعتاد حبس المرأة في بيتها وعدم خروجها إلا للضرورة القصوى ؟ ألم يكن للتلفزيون سلبيات كان على رأسها السهر في مجتمع اعتاد معظم أفراده الخلود إلى النوم بعد صلاة العشاء ؟ ألم تعلن حالة الطوارىء وتهاجم البيوت التي وضعت أجهزة استقبال القنوات الفضائية على سطوحها وكسرت وصودرت من المحلات التجارية بالأمس القريب جداً ؟ ألم تصبح كل تلك الأمور من الأشياء المعتادة ولم تعد تشكل هاجساً ولا خوفاً لدى الكثيرين ؟ فلماذا كلما فتح موضوع القيادة ظهر من يعلن حالة الاستنفار مهدداً ومتوعداً بخراب مالطة واضعاً فساد المرأة وخروجها عن أطر القيم والأخلاق نتيجة ملازمة للقيادة ؟ أو ليست القيادة شأنا اجتماعا تمارسه من أرادت من السيدات واحتاجت إليه ولا تلزم به من لا ترغب فيه ؟ ولا يعقل أن أولئك الرافضين لا يعلمون أن النساء السعوديات أكثر نساء العالم العربي قيادة للسيارات في مواسم الإجازات لاسيما في أمريكا، ولقد أخبرتني سيدة تعمل في شركة كبرى لتأجير السيارات أن عدد السيدات السعوديات اللاتي استأجرن سيارات هذا الأسبوع تجاوز خمسين سيدة في لوس أنجلس وحدها، ولو كانت النساء القائدات للسيارات كما يظن فيهن حزب الرفض لأظهرت وسائل الإعلام الأمريكية شيئا من ذلك التهور والخروج على أنظمة المرور والحوادث القاتلة . ولعل الأمر اللافت في الهجمة الشرسة التي طالت الكتاب المناصرين للقضية تجاوز اللغة المناوئة لأبسط أدبيات اختلاف الرأي حيث هوجم بعض الكتاب ديناً وخلقاً ووطنية واتهم بالسعي إلى إثارة الفتن في هذه الظروف الحرجة التي تمر فيها بلادنا! بل بلغت الحدة بأحدهم مبلغا جعلته على حد قوله يتوارى عن أعين الناس عندما يسأل عما يربطه من صلة قرابة بأحد أولئك الكتاب المنادين بحق المرأة في القيادة!. ومن الأسباب التي برروا فيها رفضهم أن قيادة المرأة ستكلف الدولة كثيرا حيث ستضطر إلى توظيف نساء في الشرطة والمرور ! وما ذاك إلا لأنهم يخشون على المرأة من التعامل المباشر مع رجال المرور والشرطة، في حين يسمحون لها بالتعامل مع الباعة والسائقين الوافدين على بلادنا وسلوك بعضهم على مالا يخفى على أكثرنا، مما يعني أنهم يثقون في الغريب ولا يثقون في القريب، والأكثر غرابة من ذلك هو الاقتراح الذي تطوع به بعضهم بأنه في حال قادت المرأة السيارة فيجب أن توظف نساء في محطات الوقود والتشحيم ومغاسل السيارات، وذلك لأنهم لا يريدون للمرأة أن تتعامل بصورة مباشرة وهي داخل سيارتها مع العمالة التي تدير تلك الأماكن، أيحسب أولئك أن هذه العمالة تختلف عن تلك التي تدير المطاعم والأسواق ومحلات بيع الملابس والأغذية والأدوية وغيرها من المحلات التي تتعامل معها المرأة على نحو يومي ومباشر إنها ذرية بعضها من بعض ! ولا أرى حلا لأولئك سوى أن يقوموا بتقسيم المدن إلى قسمين قسم خاص بالنساء لا يرتاده الرجال تزاول فيه المرأة كل شؤونها، وقسم آخر في طرف المدينة خاص بالرجال وبعيد عن كل ما له صلة بالنساء حتى تطمئن قلوبهم على أن المرأة قابعة في مكان لا يدنس طهرها شيء!. وهناك من ذكر أن قيادة المرأة للسيارة سيجعلها تكثر الخروج من بيتها ! وهذا قد يكون صحيحا لو أن المرأة لا سيارة لديها ولا سائق يتولى القيادة ولا توجد سيارات أجرة تستقلها من لا سيارة لدى عائلتها، إن المتأمل لصورة الشارع في بلادنا يجد النساء يكدن يشكلن أغلبية في الأسواق والمطاعم ومحلات البيع والشراء بدءا من محلات العطور وانتهاء بسوق الغنم، حيث اعتادت المرأة السعودية في السنوات الأخيرة على تولي معظم شؤون الأسرة من مأكل وملبس وعلاج وتأثيث، وأصبح خروجها من بيتها أمرا طبيعيا حيث اعتادت على العمل داخل المنزل وخارجه مما يحتم عليها الخروج منه أكثر من مرة في اليوم، فهل عدم قيادة المرأة للسيارة جعلها حبيسة البيت ؟ تأملوا السيارات التي تجوب الشوارع في نهاية الأسبوع أليس أكثرها سيارات الأسر التي تحمل النساء والأطفال بصحبة السائقين ؟ انظروا إلى رواد المطاعم والأسواق والمجمعات التجارية، أليس أكثرهم نساء وأطفالا ؟ إن وجود السائق هو الذي يسهل خروج المرأة من بيتها على نحو كثير ذلك أنها لو كانت هي التي تقود بنفسها لاستثقلت الخروج بعد عودتها إلى البيت بعد يوم عمل شاق، والدليل على ذلك ما يفعله الرجال الذين يرفضون الخروج لقضاء شأن من شؤون الأسرة بعد العودة إلى البيت متعللين بالتعب ولا يخرجون إلا متى كان الأمر ملحا، إما في حال وجود السائق فكلنا يعلم أنه هو من يتولى كل شيء نيابة عن رب الأسرة حتى بات ذلك من الأمور الأكثر مدعاة للتندر. ولن أسترسل في ذكر كل ما أتى على ذكره حزب الرفض لأن بعضه لا يستحق الذكر لفرط قبحه لاسيما وصم المرأة بما لا يليق، لكن مما لفت نظري قيام بعضهم بصوغ قصص في غاية السذاجة تحكي تجارب نساء غير سعوديات ومعاناتهن من القيادة ! وقصص أخرى على ألسنة نساء أمريكيات يغبطن المرأة السعودية على عدم قيادتها للسيارة ! أما ما كتبته إحدى الأمريكيات مؤخرا عن انطباعها بعد زيارتها لبلادنا فلقد أصبح من الشهادات التي يعتد بها أولئك الرافضون، لأنه من باب الحق الذي شهد به الأعداء ! كل هذا للتنفير من القيادة وهو يشبه إلى حد بعيد قصص الإرشاد التي كانت تقصها الجدات والأمهات على الأطفال للترغيب في سلوك معين أو التنفير منه، بل بدا أولئك كالواعظ الذي فقد قدرته على التأثير في الحضور فأخذ يخترع القصص المفزعة عله يسترجع ما فقده من بريق التأثير. غير أن بعض الرافضين طرح نقطة على درجة كبيرة من الأهمية وهي ان الشارع غير مهيأ في الوقت الحاضر لقيادة المرأة نظرا لكثرة السيارات وانتهاك كثير من السائقين لأنظمة المرور وعدم صرامة تلك الأنظمة مع المخالفين، علاوة على سلوك بعض الشباب الطائش سواء من حيث القيادة أومن حيث ملاحقتهم للنساء ومضايقتهن، وكل هذا صحيح وجدير بالأخذ في الاعتبار، لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو متى سنفعل ذلك ؟ وقيادة المرأة للسيارة آتية لا محالة ولن تظل محظورة إلى الأبد وكل آت قريب. كل الوقائع تشير إلى أننا لم نفعل شيئاً ولن نفعل ؛ لأننا اعتدنا تأجيل القرارات حتى تضطرنا الأحداث إلى اتخاذها فلقد ظللنا زمناً طويلاً نعاني من الفصل بين تعليم الإناث وتعليم الذكور وخضع كل واحد منهما إلى جهاز خاص، وظل الكثيرون يشتكون من أداء جهاز تعليم البنات إلى أن حلت كارثة حريق مدرسة البنات في مكة ومنع رجال متزمتون رجال الإسعاف والإطفاء من الدخول على الطالبات وهن سافرات، وكانت تلك الحادثة القشة التي قصمت ظهر بعير تعليم البنات فصدر قرار دمج التعليم بفرعيه وجعله تحت مظلة واحدة. فهل ننتظر كارثة أخرى أو كوارث من جراء تفرد السائقين الأجانب بقيادة سيارات الأسر واصطحاب النساء والأطفال حتى إلى خارج المدن ليصدر بعدها قرار جريء وصارم بالسماح للمرأة بالقيادة ؟. لماذا نصر دوماً على ممارسة أسلوب النعام في النظر إلى مشاكلنا وأزماتنا ونتركها للظروف الأقدر على التسريع بحلها لأنها تضعنا في مواجهتها مباشرة ؟ لماذا نرتهن في قضايانا الكبرى كتعليم البنات والاستعانة بقوات أجنبية للدفاع عن الوطن لرغبة فئة واحدة من المجتمع اعتادت الرفض واستمرأته لإدراكها أنها الوحيدة التي يحسب لرأيها ألف حساب ؟ كلنا يعلم أن جماعات الرفض تصدت لعدد من القضايا التي استدعاها دخول بلادنا في نسق حضاري جديد، ولو استجيب لها لما تعلمت النساء ولما دخل التلفزيون البيوت ولا استخدمت البرقية ولا وضعت الصور على الجوازات. ولبقينا إلى اليوم النسخة الأصلية لطالبان الكبرى. القضية تحتاج إلى دراسة وإلى مواجهة، أما المعارضة فلن تؤدي إلا إلى مفاجأتنا ذات يوم بأمر القيادة دون أن نعمل على ما يقلل من السلبيات التي لابد أن تصاحب كل جديد، ينبغي أن تعملوا على تهذيب سلوك الشباب الطائش حيال المرأة الذي لم يلقن سوى أنها ناقصة عقل ودين، وأنها كما نصت بعض مقرراتهم «ضعيفة ولو تركت دون توجيه ودون الأخذ على يدها لفسدت وأفسدت». حسنوا أنظمة المرور واجعلوها صارمة تطبق في حق الجميع فلا استثناءات ولا وساطات ولا تسامح أو تجاوز عمن ينتهك أنظمة المرور، والحوادث التي تقع لدينا كما تشير الإحصاءات صارخة وقاتلة ومريعة. إن القضية أكبر من مجرد قيادة المرأة للسيارة ذلك أنها تشير بقوة إلى تناقض موقف المجتمع من المرأة وإلى أزمتها فيه، تلك الأزمة التي لا يماثلها شيء في العالم! ينبغي التحرر من فوبيا الخوف والهلع على المرأة والكف عن النظر إليها وكأنها قنبلة موقوتة قابلة للانفجار مع كل جديد، وأنها الخطر المحدق بالمجتمع الذي يهدد أمنه وسكونه وجموده، ثم امنحوا المرأة مزيدا من الثقة فالمرأة التي لا تؤتمن على قيادة السيارة والحفاظ على نفسها غير قادرة على تولي مسؤوليات أخرى، وهي مع كل ما أحرزته من تقدم على صعيد التعليم والعمل لم تعد تلك المرأة التي تقبع خلف الأبواب معزولة عما حولها، كما لم تعد تلك الجدة أو الأم المنسية في ركن من أركان المنزل يمر بها الأبناء والأحفاد صباح مساء مستفسرين عن الصحة وحال الأسنان والعيون والركب والأرجل . أما الذين نصبوا أنفسهم أوصياء عليها من المهد إلى اللحد فعليهم أن يقللوا من هذه الوصاية وأن يحسنوا الظن فيها ويكفوا عن وصمها بما يقلل من كرامتها وليتركوا لها اختيار ما تراه مناسباً فهي تعلم أكثر من غيرها الأطر التي ينبغي أن تتحرك داخلها، فتقرر ما تريد وما يتناسب والمرحلة الزمنية التي تعيشها وحجم الانجاز الذي حققته، ثم عليهم أن يتعظوا بأقرانهم من سلفيي الكويت الذين ظلوا سنوات عديدة يناطحون المرأة ويقفون حجر عثرة أمام نيلها حقوقها السياسية التي أقرها لها الدستور الكويتي، فأوهنوا قرونهم ونالت المرأة ما حاولوا منعها منه.