من فنون الأدب العربي الاعتذار إلى الآخر، والاعتذار قيمة اجتماعية توطن العلاقات وتمحو الغضب وتجدد الصلات. ولن يتوقف الاعتذار على الأخطاء بل يمتد إلى الشعور بالتقصير، وإلى توضيح الأسباب، وهو يعبر عن قوة الشخصية لدى المعتذر وعن ثقته بنفسه وحسن ظنه بالآخر، كما أنه يحسم المواقف أن تتطور إلى ما لا ينبغي من التعامل. واليوم نتصفح اعتذاراً من شاعر إلى صديقه، لم تحدث أخطاء من أحدهما نحو الآخر ولكنها مشاعر ذاتية بعثها الشعور بالتقصير، فقد حدث أن أقام أحد أصدقاء الشاعر مرضي المرواني من جهينة حفل زفاف لابنه، ولكن الشاعر لم يحضر، كان ذلك في مدينة أم لج قبل المئة عام تقريباً، وكانت العادة أن يرفد الأصدقاء صاحب الحفل بما يجدون من مال، نقداً كان أو خروفاً أو غير ذلك مما يعين صاحب المناسبة، ولكن شاعرنا لم يجد ما يقدم لصديقه، وهو أمر ليس إلزامياً ولكن القيم ذات وقع أشد إلزاماً من سواها. وكان هذا الحدث ذا وقع شديد على الشاعر، والأحوال حينها بعامة تشمل السواد الأعظم من الناس، ولا شك في أن الشاعر طرق أبوابا كثيرة للوفاء بهذه القيمة الاجتماعية ولكن الأبواب كانت موصدة أمامه لما يعاني الناس من ضنك. وأمام الألم الذي كان يمزق أشلاءه أنشأ قصيدة اعتذار إلى نفسه، فهو يأبى أن يصرح جهاراً بمشكلته غير أن الشعر وسيلة أجمل للتعبير عما يختلج في النفس. وكما يلاحظ القارئ فإن القصيدة وثيقة تصف المعاناة التي كان الناس يتجرعونها في ذلك الزمن: الليلة امسيْت كِنِّي في الخلا ما عندي اوْ ناس من حال زادت على ما قبلها واللي بَعَدْها أَطْرَوْا عليَّ الرجال اللي لهم واجب على الراس ودِّي لهم بالوفا ما طول روحي في جسدها يستاهلون الوفا عَقْب الرجال اللي لهم ساس كُلٍّ على قد حيله واليدَيْن إلْها جهدها بلعون ودِّي على الطَّيِّب واجامل به مع الناس لكن نَوْبَات غير اكُبَّها من عند يدها يصف ضجره وألمه ووحدته وعزلته عن الآخرين، وهو ألم يحل بكل إنسان عند شعوره بالتقصير نحو من يعز لديه، وهذه مشاعر الأوفياء المخلصين، وهو غير متفائل بتحسن أوضاعه، ثم يصف مصدر حزنه وهم أصدقاؤه الأوفياء الذين لا يتوانون عن الواجب، ويسترسل في الثناء عليهم وبالعون: بالتأكيد، ما طول: ما زال وما دام. عقب: نسل وسلالة. وأجامل: أصنع الجميل. نوبات: أحيانا، أكبها: أتركها. وهو يترك أداء الواجب أحياناً مضطراً لظروفه القاهرة. ثم يعود الشاعر إلى تشخيص ألمه: ونَّيْت، قالوا علامك؟ قلت قلبي فيه هو جاس وهْجُوس قلبي كثيرة، ما قدرت احصي عددها شكواي لله من قلباً عَلِّي بس منحاس وايّام متحالفة ضدِّي ولا هي في وحَدْها كِنِّى سواة السجين اللي مسلسل عند حباس اللي رُمِي في سجون ومِهْلْته طول مددها حاربت وقتي إلى ما انى غَدَيْت تقول محساس واليوم وَقْتي غَلْبني والغليبة ما بعدها يئن من الألم وقلة الحيلة في وقت كان الناس يعانقون الفرح بتجمعهم واحتفالهم، وهو يعاني من آلام غيابه وتقصيره، ويسأله الناس الذين لا يشعرون بما يعاني فلا يعلن ألمه بل يجيبهم: لدي هاجوس وتفكير. وفي الواقع يعاني من خواطر وأفكار كثيرة نتيجة لمعاناته. ويخرج من الهاجوس الذي لم يسعفه بحل فلا يجد ملاذا غير الله، وهو ملجأ كل إنسان يلتمس العون. وتحالف الأيام هذا يمكن مرده إلى البطالة التي تحدث للعاملين في البحر مثل الشاعر الذي لا يجد في البر مهرباً من أشجانه ولا مصدراً لرزقه. وقد لا يوفق الإنسان عند ما تغلق أبواب الأمل في وجهه فيرد ذلك إلى تحالف الأيام ضده، وليست الأيام وحدها من يعاند الشاعر بل هناك أسباب أخرى. وكلمة تملِّي: بمعنى دائما لهجة مصرية تأثر بها الساحل الشرقي للبحر الأحمر. بس: لكن ودوماً. غديت: أصبحت. محساس: شديد الحاسية. وأمام هذا الفقر يطرح الشاعر أفكاره عن ذوي المال فيقول: لو كان ربي عطاني مال ودِّي زَوْد نوماس قدامي الناس قالوا: من زرع حبة حصدها بعض العرب لو ملك له مال قاعد فيه حراس يقول ماشي حصيل ونعمة الخالق جحدها ماني شقاوي إلى العالم ولا أريد انشد الناس أشوف مخلوق باللي عندها ربي قَرَدْها زود: زيادة. نوماس: فخر أو ما يدعو إلى الفخر من الفضائل. ماشِ حصيل: لا مردود مادي ولا انتاج. شقاوي: متتبع لخصوصيات الآخرين. وتحليل الأبيات وشرح واضح. لكن الشاعر يختتم القصيدة بذم البخل ويوصي بعدم اليأس والقنوط وبمد حبل الرجاء والأمل. وأخيراً يدعو الله: يا ناقل البخل شوفك ما تعيِّن غير الافلاس اغنم زمانك ترى كم واحد مثلك طردها لكن أوصِّيك من حبل الرجا لا تقطع اليأس اذكر نهار اليدين مردداتاً في لحدها يا الله طَالِبْك في يوم الحساب وعرض الاجناس تغفر ذنوبي نهار المرضعة تنسى ولدها ابتداء بوصف الألم وأهمية القيم الاجتماعية ثم الانتقال إلى وصف الشاعر ثم إلى النصح، وكل هذه المعاني تبطن الاعتذار وتفيده. وتبدو ثقافة الرجل الدينية في قوله: «كل على قد حيله» من قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وقول الشاعر: «نهار المرضعة تنسى ولدها» من قوله تعالى: (يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت) وقول الشاعر: «من زرع حبة حصدها» من الأمثال العربية. والشاعر من البحارة الذين يجوبون البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي إلى الخليج العربي جيئة وذهابا، وهناك من الأيام ما يثور فيها البحر فيفر البحارة إلى الشواطئ ثلاثة شهور يواجهون المعاناة القاسية من البطالة وقلة ذات اليد. هذه القصيدة التي أشرنا إليها وحاولنا كشف محتواها وردت في كتاب «شعراء من الحوراء» للأديب محمد حامد السناني فله تحياتي وتقديري.