ونّيت، قالوا علامك؟ قلت قلبي فيه هوجاس ، وهجوس قلبي كثيرة ما قدرت احصي عددها عرف المجتمع الإنساني كثيراً من الأساليب التي تمكنه من تعميق قنوات التواصل بين أفراده، وتدفعه لتحقيق الأمن الاجتماعي بين ربوعه وتقارب بين فئاته بما سن من عادات وتقاليد، وما وضع من أنظمة تفرق بين المجتمع الإنساني والمجتمع المتوحش، فكان التزاوج والتعاون من أسباب مدنية هذا المجتمع والتقليل من البغضاء والتباعد بين أفراده، فالتزاوج والمصاهرة يحققان التقارب، والتعاون يصنع المعروف الذي يؤلف بين قلوب الناس. ومجتمع الجزيرة العربية من أحرص المجتمعات على تشكيل هذه الروح، لأنه يستمد خلقه ونظمه من معينين عميقين، الأرومة العربية الضاربة في البعد التأريخي والدين الإسلامي الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وكل ما أبدع هذا المجتمع من نظم إنما تساهم في تحقيق حياة آمنة مطمئنة بين ربوع صحراوية قل عطاؤها فحرضت المجتمع على الصراع من أجل البقاء، فكان الغزو والسلب والنهب الذي أيقظت المبالغة فيه ضمائر إنسانية سعت لتفادي هذه الخطورة وعملت على تخفيفها بوضع نظم تخفف من حدة الصراع والمبالغة في العدوان. فكان الجوار والتصاهر والمصاحبة والضيافة وغيرها عوامل تشفع للمتضرر أن يتفادى الأضرار التي تحل به من خلال الشفاعة، فمن تزوج من قبيلة غير قبيلته استفاد من عامل النسب في دفع تعدي القبيلة الأخرى، ومن نزل ضيفا بقبيلة أخرى أو آخى أحد أبنائها تمتع بالحماية في أراضيها مدة الضيافة والمؤاخاة حتى يغادر هذه الأرض رافعاً شعار التكريم ورد الجميل. الأمر الثاني يتصل بالتعاون بين أفراد القبيلة والحي والأصدقاء بدعم مشروعاتهم الإنسانية في البناء ودفع أضرار الكوارث وفي الزواج والديات ونحو ذلك من الأعمال التي يتجسد فيها الجانب الإنساني. ولئن كانت المسؤولية في ذلك تقع على المقتدرين فإن الذي لا يملك ما يساهم به يظل متألماً شاعراً بالتقصير حتى وإن عذر. ومن الأمثلة التي لا يتهيب الناس الأقدام عليها مشاريع الزواج، فمن الناس من يطرق باب الزواج بامكانيات بسيطة إلا أنه يطلق آماله على ما يقدم له من مساعدات فيقدم على الزوج الذي يشكل فرحة اجتماعية واسعة النطاق لأن الزواج مؤسسة اجتماعية تنعكس فضائلها على المجتمع كله ولا تنحصر فوائدها على الزوجين أو أسرتيهما، ولذا عرف الرفد منذ القدم، إلا أنه اتخذ أشكالاً وأنواعاً فكان مالًا نقدياً وكان عطاء عينياً وكان غير ذلك. وأمامنا اليوم موقف شاعر لم يجد ما يقدم لأصدقائه في يوم زفاف ابنهم لضيق ذات اليد في زمن كان الناس فيه يعانون من حياة الفاقة وأحوال المعاش، وقف الشاعر أمام مواجهة هذا الموقف حائراً بين الهروب وإلى أين؟ وبين الغياب عن المناسبة وصعوبة ذلك، وبين المشاركة بالحضور الذي لن يعقب له غير التحسر والأسى والشعور بالتقصير في أداء واجب اجتماعي، فلم يملك غير أن يصور لنا مشاعره في قصيدة رواها الأخ محمد حامد السناني في كتابه «شعراء من الحوراء» وهذا الشاعر هو مرضي المرواني من جهينه من سكان الحوراء. يقول الشاعر: الليلة امسيت كِنِّى في الخلا ما عندي او ناس من حال زادت على اللي قبلها واللى بعدها طَرَوْا عليّ الرجال اللي لهم واجب على الراس ودّي لهم بالوفا ما دام روحي في جسدها يستاهلون الوفا عَقْبَ الرجال اللي لهم ساس كلاًّ على قد حَيْله واليدين الها جهدها وبعد مقدمة عن هذه العادة الجميلة ومشاعر شاعر يعاني من موقف العجز عن القيام بهذا الواجب يمتدح الطرف الآخر ثم يبرر لنفسه: بالعون ودّي على الطيّب واجامل به مع الناس لكن نوبات غصب اكبَّها من عند يدها وظروفه ارغمته على ترك هذا الواجب الذي جعله يعلن ألمه: ونّيت، قالوا علامك؟ قلت قلبي فيه هوجاس وهجوس قلبي كثيرة ما قدرت احصي عددها شكواي لله من قلب تملاّ بس منحاس وايام متحالفة ضدي ولا هي في وحدها كنّى سواة السجين اللى مسلسل عند حبّاس اللي رُمي في سجون ومهلته طوَّل مددها هذه معاناته الأليمة الناشئة عن عديد من الحالات التي لم يجد من خلالها منفذا ليعيش كريما بفكره وعمله حتى حاصرته هذه المشكلات وأوصدت أمامه أبواب الانطلاق نحو الكسب. وفي الواقع لم تكن غير ظروف زمنية يعاني منها كثير من معاصرية، وهو لم يكن مستسلماً لهذه الظروف بل إنها عاندته: حاربت وقتي إلى ما انى غديت تقول محساس واليوم وقتي غلبني، والغليبة ما بعدها وبهذا يبرئ نفسه من الاستسلام الانهزامي، ويرد الهزيمة إلى طبيعة الحرب بين الإنسان والزمن الذي انتصر لعدم انفراجه، والإنسان هو الذي يساهم في الاضرار بأحواله وبصناعة عدم الاستقرار لما به من أنانية وإثرة فالحروب التي شهدها زمن الشاعر وخارج بلاده من أسباب هذا الكساد وهذه المعاناة، فمن يمتلك القوة يطغى وينسى ما سواه، وهذه نتائج الحروب العالمية تحدث بعيداً تقودها الاطماع ويتضرر مشعلوها ويدرك الضرر سواهم. ثم يعبر الشاعر عن الجانب الإنساني لديه، ويشير إلى الأعمال الخيرية التي ينوي تقديمها لو امتلك المال فيقول: لو كان ربي عطاني مال ودّي زَوْد نوماس قدامي الناس قالوا من زرع حبّة حصدها بعض العرب لو ملك له مال قاعد فيه حَرّاس ويقول ماشي حصيل ونعمة الخالق جحدها هذه فلسفة المال لدى الشاعر عطاء وكرم بخلاف آخرين ينكرون النعمة اتقاء الحسد والمطالبة بالانفاق في أعمال الخير، وهذا ليس من مذهب الشاعر كما تتحدث مشاعر الحاجة، ويردف: يا ناقل البخل شوفك ما تعيّن غير الافلاس اغنم زمانك ترى كم واحد مثلك طردها لكني اوصيك من حبل الرجا لا تقطع الياس اذكر نهار اليدين مرد داتٍ في لحدها وينهي الأبيات بالدعاء: يا الله طالبك في يوم الحساب وعرض الاجناس تغفر ذنوبي نهار المرضعة تنسى ولدها وشعراء الشعر الشعبي لا ينسون المرجعية الدينية التي تعد بالثواب وتحذر من العقاب ويوظفون الآيات والأحاديث والحكم توظيفا يساهم في ايصال الأفكار التي يطرحون في أشعارهم، ولعل وضوح هذه الظاهرة في أشعارهم وعند منتهى قصائدهم يعنون بها كفارة ما قد جاء في القصيدة من انحرافات جرهم إليها سياق القصيدة وتوارد الأفكار، لذا يختتمون القصائد بأقوال تذكر المتلقي بما ينبغي له أن يكون عليه ويجرد الشاعر نفسه من الزلل، ويستدعي الاستغفار والدعاء.