تأكل الطائفية ما بقي من تطورٍ في المجتمع، ذلك أنها تحد من الإبداع، وتجعل الهاجس كله قائماً على التصفيات والتصنيفات بين الطوائف، وربما وصل الحال إلى المحاصصة، وتقاسم السلطات والمؤسسات والمناصب، كما هو الحال في لبنان. وحين كتب أدونيس عن بيروت أنها لم تعد بيروت التي عرفها، غضب بعض اللبنانيين، هذا مع أنه وصفها ولم يشتمها، وإنما يشير إلى انتشار مظاهر التمييز الطائفي بين 25 طائفة تسكن لبنان وتتسابق على التعارك والتناوش، حتى المؤسسات والبريد والمطار كلها قسمت طائفياً والوزارات كذلك كل وزارةٍ لطائفةٍ معينة، أما المناصب الرئيسية الثلاث فقد شكلت الحالة السياسية اللبنانية، إذ لا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية إلا مسيحياً، ولا رئيس الوزراء إلا سنياً، ولا رئيس مجلس النواب إلا شيعياً. في حوارٍ مع الكاتب العراقي جمعة اللامي نشر في "الشرق الأوسط" قال:" وإذا سألتني عن مستقبل الثقافة في العراق، فأقول لك: إنها ثقافة الازدهار في المستقبل بعد أن تتخلص من كل شوائب الطائفية؛ لأن الثقافة الحقيقية لا تتوافق ولا تتطور مع الطائفية ولا مع الديكتاتورية. إنني عربي وسجنت سبع سنوات من أجل الأكراد، وخمس سنوات لكوني شيوعياً، وكان بيننا الكردي والعربي والتركماني والشبكي والأيزيدي، كلنا سجنا من أجل قضية واحدة. هذا هو العراق الحقيقي". العراق الذي تمت لبننته سياسياً ليكون ضمن أنماط المحاصصة، يراد له أن يفقد قدرته على الإبداع والتنويع المعرفي والثقافي بل والسياسي، ذلك أن الطائفية هي ديكتاتورية اجتماعية. لم تكن الطائفية مساراً أو مخرجاً بل طالما كانت نفقاً يدخل الناس فيه بكل ظلامه ولا يخرجون منه إلا بصعوبة، لهذا تفقد المجتمعات الطائفية قوتها بسبب الشتات والعداوات الغريبة، التي تتنامى مع التصعيد السياسي. لنأخذ لبنان مثلاً، هذا البلد الذي كان قبل الحرب الأهلية، موئلاً للمدنية والتحضر والتطور، ومنجماً للأدب والفنون والموسيقى والشعر والفكر، أصبح الآن من يتسيّد مشهده أشخاص متطرفون من دون عمق، استناداً على ارتفاع صوتهم الطائفي، وغدت القوة السياسية الأكبر قوة أصولية بقيادة حزب الله، هكذا جعلت الطائفية من لبنان محمية إيرانية ودمر الإرث المضيء. بآخر السطر، الطائفية تقتل الإبداع وتلوث المجتمع وتقضي على كل عرقٍ من عروق الحياة والطبيعة والفنون والجمال.