السعودية تؤكد ضرورة اتخاذ إجراءاتٍ فعّالة للقضاء على الجوع وتلبية الطلب المتزايد على الغذاء حول العالم    دوري روشن: ثنائية حمدالله تقود الشباب لكسب مواجهة الخلود    شرطة النماص تباشر «إطلاق نار» على مواطن نتج عنه وفاته    أستراليا تعتزم حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم تحت سن 16 عاما    «السوق المالية»: إدانة 3 بمخالفة نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية ونظام الشركات وتغريمهم 3.95 مليون ريال وسجن أحدهم    وكيل أعمال سعود عبدالحميد يكشف حقيقة عودة موكله إلى «دوري روشن»    الاتفاق يختتم تحضيرات الهلال    الأولمبياد الخاص السعودي يستعد لاستضافة المجلس الإقليمي للاعبين القادة في جدة    وزير الداخلية يستقبل سفير فرنسا لدى المملكة    سقوط 46 قتيلا.. مجازر إسرائيل مستمرة في قطاع غزة    «سلمان للإغاثة» يوزع 1.490 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في محافظة إدلب    انطلاق أعمال مؤتمر النقد السينمائي الدولي في الرياض    إنطلاق أعمال المؤتمر العالمي لطب الأعصاب بمشاركة اكثر من 350 مختصاً    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    جامعة الفيصل توقّع عقد إنشاء مبانٍ لكليتي الهندسة والقانون بقيمة 325 مليون ريال    "سلمان للإغاثة" يوزع 2.459 كرتون تمر في مديرية الوادي بمحافظة مأرب    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    البنك الأهلي السعودي يطلق محفظة تمويلية بقيمة 3 مليارات ريال خلال بيبان24    القبض على يمني لتهريبه (170) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    حاكم الشارقة يفتتح الدورة ال 43 من معرض الشارقةالدولي للكتاب    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشّن فعاليات مهرجان شتاء جازان 2025    بانسجام عالمي.. السعودية ملتقىً حيويًا لكل المقيمين فيها    "ماونتن ڤيو " المصرية تدخل السوق العقاري السعودي بالشراكة مع "مايا العقارية ".. وتستعد لإطلاق أول مشاريعها في الرياض    رحيل نيمار أزمة في الهلال    إيلون ماسك يحصل على "مفتاح البيت الأبيض" كيف سيستفيد من نفوذه؟    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    المريد ماذا يريد؟    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الدراما والواقع    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    التعاطي مع الواقع    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ليل عروس الشمال    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كان المقهى أكثر ملاذاً ودفئاً من البيت الذي نسكن فيه
السيف الذي حاول أن يروض تلك «الشرسة»:
نشر في الرياض يوم 27 - 06 - 2013

كلما كتب الشاعر «سيف الرحبي» شيئا أحس بأن هناك شغفا جديداً يصطاد من عمره ريش الحياة الطويلة التي كانت تزوره في المنام طفلا قبل أن يصحو ليترك قدميه الصغيرتين رهينتين عند حقول القرية الجبلية، وبقي يشبع شغفه بالكتابة التي لم يشبع منها ولم تغفل عنه يوما .. بداخله كانت الأيام تهديه للسفر ولزيارة معالم وطرقات وأرصفة عديدة تلونه بتجربة الاغتراب والبوح والمفاجئة التي يدور بداخلها ثم تهديه حبرا وورقا وتوقا جديداً ..
القطارات في عمره كانت تأخذ شكل البواخر التي تمر بصفيرها عبر روحه والقبور كانت تفرش بأعماقه معنى أزليا للموت الذي يخشى منه على من يحب، ولكنه برغم كل ذلك يصر على أن هناك شيئا يفتش عنه ربما يشبهه أو ربما لايمت له بصلة ولكنه موجود في مكان ما .. هنا .. أو هناك .. فيعيش لأنه محمل بكل ذلك السراب الطويل الذي يوقظ لديه أحلامه التي تهديه إلى جبل أسطوري بلا سقف وسراديب مشبعة بوجوه يعرفها ولا يعرفها .. ثم يبرد كثيرا في أكثر الأماكن شتاء والتي تتآمر مع برده الداخلي ..
هنا «سيف الرحبي» عبر «صفحة « على المكشوف» يبوح بكل شيء .. يمارس الكلام الذي يأتي به من قلب خبر كيف هو شكل الحياة فغرق في مسافة التأمل، هنا يعشق ويحلم ويحزن ويكره الظلم .. ثم يحن إلى ضفائر أمه ووجهها .. ولكنه قبل أن ينهي حديثه يقول « أحاول أن أروض روح المدن الشرسة بالكتابة . ثم يغني لفيروز وهو لا يعرف لمن يحن في صباحات صوتها ! ولكنه في النهاية كائن حنين وشوق .
الحقيقة الهاربة
* نبقى دائما مشدودين إلى رسوماتنا على الحائط الذي يقام بداخلنا نتوق كثيرا لأن نخربش فوق اللوح، إلى أن نكتشف شيئا ما بأعماقنا .. ماذا عنك ! أحاولت يوما رسم لوحة لسيف الرحبي ؟ أي الألوان اخترت ؟ وكيف تراه الآن ؟
- الكتابة في كل أطوارها الزمنية والمكانية ليست إلا تلك الخربشة على لوح الوجود الغائم أو حائطه، والحقيقة الهاربة باستمرار وربما أجمل طور زمنيّ هو طور الطفولة وخربشاتها الفوضويّة فحين أراقب أطفالي يلعبون ويخربشون ويبنون ويحطمون أقول في نفسي هذه هي حقيقة الفن والأدب حقيقة البراءة والفوضى المفتوحة من غير سقف ولا حدود، الفن هو هذا اللعب الجمالي هذه الخربشة وهذه الحرية قبل أن تلجَ تخوم الواقع والمعيش بشروطه القسرية والإكراهية ومع تقادم السنين لا أعتقد أن الكائن والشاعر سيكتشف أشياء جوهرية في هذا الوجود الصعب عدا سراباته وأوهامه المتجددة باستمرار مثلما يتجدد سراب الربع الخالي المحيط بنا مكاناً ورمزاً.
مدن الحنين
* قلت يوما «أنا كائن مدينة، هكذا نشأت وكبرت «.. هل تختار شكل حياتك في تلك المدن أم هي التي اختارتك ؟ وكيف هي المدينة الآن ؟
- في الواقع أنا وُلدت في قرية بين الأطواد الجبلية العمانية البالغة العلو وعشت طفولتي في هذه القرية بحيواتها ومخلوقاتها البشرية الحيوانيّة والصخرية التي تتناغم في موجة حياة روحية واحدة.. لكن رحيلي المبكر عنها وحدسي بعدم العودة إليها ثانية، جعلني أعيش في المدينة بعالمها وعلاقاتها وصخبها التي كانت هي القاهرة في البداية ومن ثم تقاذفتني المدن المختلفة كما حاولت أن أُروض روحها الشرسة عبر القراءة والكتابة والمخيلة.. المدن العربية التي عشت فيها في السبعينات والثمانينات لم تكن خربة مثلما هي في اللحظة الراهنة طبعاً، ولو كانت تؤذن وتؤشر إلى هذا الخراب الشامل وقد كانت خرائطها الفكرية والسياسية الثقافية على نحو من حيوية وصراع وطموح وهي مدن عريقة في الزمن والتاريخ والمعرفة من القاهرة إلى بيروت إلى الشام. انظري الآن إلى هذه المدن ونضيف إليها بغداد ليكتمل قوس الفكر الخصيب ومن ثم الدمار المادي والمعنوي والذي طال روح البشر والأماكن وها هو يمضي باتجاهات يتعمق فيها هذا الدمار وهذا الخراب سواء بفعل العوامل الداخلية المتراكمة وهي الحاسمة، أو عبر الخارج الذي كأنما يريد أن يثأر من عظمة هذه المدن وتاريخها عبر التدمير والإذلال، إنها لوحة قاتمة وحزينة بالنسبة لي ولكثيرين ولا نستطيع النظر إلا في مرايا عجزنا والحنين .. وهاهي المدن تتحول إلى حنين وزمن مثلما كانت تلك الحياة في القرية النائية.
الأحلام المنقذة
* هل للأحلام مواسم .. ؟ ماهو الحلم الذي أيقظك ذات شتاء ؟ وماهو الحلم الذي احتمى بك ذات صيف ؟
- إنني غزير الأحلام في نومي، وآخذ السؤال حول الحلم في هذا المنحى (حيث الحياة ليست إلا حلماً كما يقول المتصوفة) أحلام النوم الليلية غالباً أنا لا أنام في النهار أصلاً . غزير الأحلام خاصة حين أنام في الأماكن الباردة أحلام تختلط فيها الكوابيس والذعر والخوف في خضّم المشهد البشري العاصف أو حتى في خضّم مشهد الطبيعة الجبلية خاصة.. حيث يتردد حلم بأني أتسلق جبالاً أسطوريّة ليس لها من سقف ولا قرار مثلها مثل الصحراء إنه حلم الاضطراب في قلب المتاهة وهناك أحلام بهيجة تزورني بين فترة وأُخرى لتنتشلني من قبضة الهاوية والكابوس.. ومع تقادم الزمن ربما تقل الأحلام لكنها لا تختفي بالنسبة لي وآخرين كما أقرأ في بعض السير الذاتية. أيضاً هناك أحلام تتكرر دائما وهي منقذة بالنسبة لي من قبضة المكان الواحد حين أرى نفسي أتجول من مكان إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى أماكن ومدن وشخوص أعرفها ولا أعرفها تحمل ملامح الوقائع التي عشتها وملامح الحلم والخيال والضباب. إنها كائنات هجينة وهذا ربما سر جمالها الليلي العابر.
دهاليز المسافة
* تغادرنا الشخوص والتجارب وتبقى الروائح .. رائحة بيت الطفولة، أو شعر الأم، أو رائحة حقل أو بئر.. تبقى معنا في القلب .. يوقظها مطر عاصف أو فرح طفولي أو حزن عميق.. أي الروائح التي بقيت مع «سيف» منذ الطفولة ولم تغادره يوما ؟
- الغياب القاهر وما يتركه من توتر وأشواق وحنين هو المحفز الأكثر ثراء على ما أظن للكتابة والإبداع وللخيال الإنساني. تتبدل كل الأشياء والشخوص والأماكن وكأنما هي في برهة عبور سريع إلى دهاليز الغياب وظلمة المسافر. كم من الأماكن والشخوص والوجوه تتلاشى تاركةً أثر الجراح والذكرى والألم وقليلٌ جداً من استعادة لحظات كانت مرحةً وجميلة. إننا محكومون بشروط هذا الغياب القاسي بداية من غياب الأم المبكر بالنسبة لي وحتى غياب آخر صديق أقرأ خبر نعيه في الصحف ليلة البارحة.
بالفعل هكذا هي الحياة في جوهرها، مشهد عابر باستمرار وعاصف ومتغير باستمرار ولا يتبقى شيئا منه عدا الهباء وذكريات متناثرة شاحبة من هنا وهناك حتى النهاية . لكن أيضاً ثمة شيئاً عصياً على النسيان مع تقدم الزمن والعمر وكل التحولات التي تصحب الكائن في هذا المسار المأساوي تبقى تلك العناصر عصيةٌ ربما على الاندثار وكأنما صنعت من مادة خالدة وربما ستبقى حتى بعد رحيلنا مُحلقةً في الآفاق .. وجوهٌ وروائح تبقى هكذا على هذا النحو من الوجود الذي يصعب على الزمن محوهُ كما يمحو الأشياء والعناصر الأخرى.. وأتذكر في هذا السياق وجه أمي المُضئ على مر الظلمات والمدن والأيام على رغم غيابها الطويل ورائحة بيتنا القديم في تلك القرية النائية وروائح ووجوه مبعثرة في مدن متفرقة، رائحة القِدم في بعض أحياء القاهرة ودمشق التي كأنما هي قادمة من الأزمنة السحيقة المدهشة.. المطر حين يضرب هذه البقاع القاحلة يوقظ ذلك النثار من الذكريات الذي يبدو انه يتمتع بنوع من الثبات الذي يشبه الخلود، كما الأفكار العظيمة التي لا تندثر على مر الأزمان.
الحضور الأكبر
* يأتي الموت ليغيبنا عن الوجود .. يزورنا وربما يتسلل إلينا من تحت أكمامنا أو من داخل معطفنا .. أو ربما تسلل إلى أقدامنا دون أن نشعر .. هل تخاف الموت ؟ ماهو الأمر الذي تخشى عليه من موتك ؟
- الموت هو الحضور الأكبر في حياتنا وفي مشهد العالم أجمع. الموت الفردي والموت الجماعي الذي يحيط بالبشرية جراء الحروب والجشع وتوحش المصالح بين الاطراف المتحاربة.. وبالنسبة لي الموت هاجس منذ الطفولة حين رأيت أول طفل يموت في بيتنا القديم ويُصلَّى عليه في الوادي أو حين كنت ألعب طفلاً بين القبور المكشوفة. الحياة جزءاً من الموت والموت مكملٌ ربما لهذه الحياة.. بعض الفلاسفة يقول: (إن الحياة تافهة لولا أنها جزء من قضية أزلية هي الموت) تنهمر الأفكار والهواجس والإبداعات من كل حدْب وتاريخ وصوب حول مسألة الموت.. هذا الواضح من فرط غموضه والبسيط من فرط تعقيده هو الحقيقة الوحيدة في هذه الصحراء اللاهبة. لكن حين تأتي النهاية ربما ستفقد الكثير من مهابتها بعد سنين الحياة المتراكمة. خاصة إذا طالت وبعد كل هذه المطبات والمآسي والكوارث التي تحيط بحياة الكائن. لكن الموت يظل هو المتجدد والشاب والنضِر باستمرار بينما العالم إلى هَرم وفساد.. لا أخاف على شئ بعد هذه النهاية الحتمية إلا على أطفالي وهم لم يخبروا قسوة هذا العالم بعد..
هبة المقاهي
* أتسرقك المقاهي حينما تكون بحضرة إغوائها ؟ ماذا تراقب من خلف زجاجها ؟ وعن ماذا تكتب ؟
- معظم حياتي مضت في الطرقات المختلفة بين المقاهي الكثيرة في المدن المختلفة.. كان المقهى أكثر ملاذاً ودفئاً من البيت الذي نسكن فيه.. دفء الأصدقاء والأحباء وتأمل المشهد البشري المتغير والقادم من أصقاع كثيرة ، أتذكر أنني كتبت الكثير من كتبي في المقاهي التي بدأت رحلتي معها من القاهرة حتى الشام وبيروت والجزائر والمغرب وبلاد أجنبية أخرى فكانت المقاهي بؤرة الذكريات والهواجس والأحلام.. لكني في هذه اللحظة في عمان فقدت هذه العادة وصار نمط حياتي مختلفاً ولا يكاد يحضر المقهى إلا نادراً في حياتي.. لكن بما أني كثير الأسفار، أقول هذا من غير فرح في هذه البرهة من العمر على عكس زمان.. فما زلت في هذه الأسفار أمارس نمط حياة المقاهي كثيراً، وكما في السابق وتشتعل المخيلة دائماً في المقاهي الغريبة بين أناس غرباء.
حنين لايشبع
* كلما تقدم بنا الزمن في العمر. نحس بشكل أعمق وأكثر كثافة بحنين العودة إلى المكان الأول .. هكذا يوما قلت .. إلى ماذا تحن الآن ؟ وهل هناك حنين ينقر روحك حتى يسرق شيئاً منك وترغب في أن تتخلص منه ؟
- إننا كائنات حنين وأشواق مهما تقادم الزمن.. إنني ما زلت مثلاً أحن إلى مكان ولادتي الأول في القرية لكني لا أذهب رغم إنها لا تبعد عن العاصمة أكثر من 60كلم ، وكذلك أماكن أخرى أحاول الاحتفاظ بها في المخيلة والذاكرة لأن الزمن أنجز مهمته بضراوة في المكان والبشر.. لكن الحنين يظل موجوداً على الدوام. الحنين إلى الأماكن إلى المرأة إلى الأصدقاء الذين غابوا منذ زمن طويل . الحنين نسغ الإبداع المتجدد باستمرار أحن إلى الأماكن التي أعرفها والتي لا أعرفها حتى حين أقرأ تحقيقاً عن الأمازون أو القطب الشمالي المتجمد يراودني الحنين للذهاب.. كما أني هذه الأيام أُعيد قراءة عبور (ثيسجر) في الربع الخالي أحس بالحنين إلى حياة البدو والترحل في تلك الصحراء المروعة التي ضاع فيها الدليل والزمان.. باختصار مثل ما تقول فيروز (أنا عندي حنين ما بعرف لمين) إنها عبارة جميلة.
لعبة الكراسي
* تقود مجلة نزوى الثقافية كرئيس تحرير .. ماذا أخذ منك كرسي الرئاسة وماذا أعطاك ؟ اتستهوك لعبة المقاعد ؟ مَن المنقاد أكثر للآخر .. هل أنت منقاد للمقعد ؟ أم أنه هو الذي ينقاد إليك ؟
- تجاه مجلة نزوى وغيرها لم تراودني مثل هذه الأحاسيس أحاسيس الكرسي والإشراف والرئاسة . إنني أنفر من هذه التسميات بطبيعتي البرية القادمة من ضفاف تحلم دائما بالحرية ، ومجلة مثل نزوى أيضاً لا تحتمل مثل هذه التوصيفات هي ليست إلا منبراً للأصدقاء والمبدعين من كل الأنحاء والأجيال . وأنا لستُ إلا ساعي بريد بين هؤلاء الموزَعين في خرائط الأرض. إنها تسلية نبيلة مثل الكتابة، على رغم مشاكلها الجمّة..
الانفصال عن المرأة التي تحب مفارقة مأسوية موجعة
الكل خاسر
* تباغتنا الأحداث الحياتية لتعيد تشكيل تضاريس الروح والعقل .. ماهو الحدث الذي شعرت معه بأنك هرمت كثيرا وتعبت ؟
- الأحداث غزيرة ومتلاحقة وعاصفة ورهيبة منذ فتحنا أعيننا على هذا العالم المضطرب والمقرف والجميل (هذه العاجلة محبوبة)، كما يقول التوحيدي. أحداث رهيبة تحيط بالعالم وخاصة بنا في العالم العربي أحداث متلاحقة مروعة مخيفة دموية بدءاً على صعيد الحروب المؤثرة كيانياً بالنسبة لي وآخرين بالطبع بدءاً من الحرب اللبنانية حتى الحدث الرهيب المنقطع النظير على صعيد الهمجية والوحشية التي يمارسها التتار الجديد في سورية التي عشت فيها زمناً ليس بالقصير. وغمرني كرمُ أهلها.. إن هذا الحدث يؤكد انحطاط البشرية ولؤمها وانفلاتها من أي قواعد أو حسّ أخلاقي حتى قواعد الحروب والصراعات لم تعد موجودة.. بربرية مطلقة وشر مطلق لا أعرف من أين أتت ضراوة في أي وصف يرتكبون مثل هذه الإبادات والمجازر في هذا البلد العزيز، والعالم يتفرج. وأطنان الخطابات تدبج منذ بداية الثورة السورية التي لا يريد شعبها شيئاً عدا الخروج من المهانة والعبودية وبناء مستقبل آخر. إنني مرعوب من ملامح هذه الحرب الطائفيّة التي ستفترس ما تبقى من احتمال مستقبل مختلف، والكل خاسر فيها..
العزلة والحنين
* نختار - أحيانا - طريق القطيعة مع أناس كان محلهم القلب. نختار القطيعة ونحن نتألم لأنه لاجدوى من كل ذلك الجفاف .. متى اخترت القطيعة مع أناس عبروا قلبك ؟ كيف هو شكل ذلك الجفاف ؟
- إن القطيعة مع ناس ألفناهم وأحببناهم قاسية ومؤلمة لكنها تأتي أحياناً جزءاً من طبيعة الأشياء وضرورية لبتر العضو الفاسد قبل أن يدمر السرطان الجسد كله. وطبيعة العلاقات القائمة في البشرية المعاصرة على عكس ما كان يتمتع به الأقدمون من قيم، تحتم مثل هذا المسار ومثل هذا الانفصال. وفي الوسط الثقافي العربي المهزوم أمام تاريخ قاسٍ لا يرحم، تجدين الكثير من الضغائن والكراهيات التي تدمي القلب ويفضل الواحد منا العزلة أحياناً على هكذا علاقات لكن الحنين يأخذه أحياناً إلى تلك المرابع والأطلال.
نوافذ السلام
* في مدية واحدة لاتكفي لذبح عصفور كتبت (خطوة ثالثة تصلك بالمريخ . بعد أن تكون قد أفرغت النافذة من البكاء) وماذا عن النوافذ التي بداخلك .. متى تفتحها للبكاء ؟ ومتى تغلقها لتكون وحيدا ؟
- نوافذي كلها مفتوحة تحلم بالهدوء والسلام والمحبة رغم قسوة اللغة والظروف والصحراء لكن في هذه الفترة من الصيف العصيب. هذان الشهران على الأقل أغلقهما في الواقع كي أفتحهما أكثر على الأحلام والهروب، بسبب الحر الشديد الذي نعرفه جميعاً في الجزيرة العربية ولكي ننعم بالمنقذ المفيد من التكنولوجيا الغربية وهي المكيفات ... إن ألد أعدائي في هذه الحياة هو الظلم والحر.
انفصال
* كتب نزار قباني (علمني حبك أن أحزن . وأنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أحزن. لأمرأة أبكي فوق ذراعيها مثل العصفور. لامرأة تجمع أجزائي كشظايا البلور المكسور) هل غزاك الحزن يوما لأن امرأة حولتك إلى عصفور ثم غادرتك ؟ وماهي أسوأ عاداتك في الحب؟
- على كل ذلك الجمال الباذخ للمرأة للحضور الأنثوي الذي يلطف قسوة هذا العالم المريع يبقى التفكير دائما في لحظة الانفصال القاسية عن المرأة التي نحب، وهي مفارقة مأساوية جوهرية من مفارقات هذه الحياة العابرة.. واستشهادك في هذا السياق بالراحل الكبير نزار قباني الذي ربما كان رحيله أفضل بالنسبة له من أن يشهد بلاد الأمويين والياسمين والتاريخ الذي علم البشرية أبجديتها الأولى يداس بالأقدام على هذا النحو الوحشي.. تلك البلاد التي أحبها قباني حتى التوحد والموت.
الوحدة
* متى شعرت باليتم وفي داخلك رغبة بأن يحنو قلب عليك ؟
- دائما ثمة شعور باليتم. اليتم الوجودي حين نفكر في ماهية هذا الوجود نحس باليتم وبأننا وحيدون ومستوحشون على قارعة الكون لكن اليتم الأكثر شخصية أحسست به لحظة غياب الوالدين اللذين فرقتني عنهما المسافة طويلاً ولم أنعم بالحياة معهما مغموراً بحنانهما ولطفهما كما باقي البشر والكائنات.
الغبار والغموض
* قضيت سنوات طوالا في السفر والارتحال .. ماالذي بقي بداخل «سيف الرحبي» وماالذي غارده ؟
- (عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء) هكذا باختصار وأصلا متى رحنا ومتى عدنا لا أعرف إن المشهد مليئ بالغبار والبدو الرحل والغموض.
الحقيقة الواحدة
* متى لاتعرف نفسك ؟ وأين تجد كائنا آخر يشبهك وهو أنت ؟
- ربما كل حياتنا ستمضي في البحث لمعرفة من أنا أو من نحن وأيضاً البحث المضني (عن كائنات تشبهنا) كما عبر لوتريمون.
هذا الشاعر الفرنسي الرهيب وجد شبيهه وهو يحدق في عيني سمكة القرش لحظة الهياج. نقضي الحياة بحثاً وتأملاً ولا أعتقد أننا سنصل إلى حقيقة واحدة ناجزة . وهذا أحد تجليات العذاب البشري أن يعيش الفرد بين كائنات لا تشبهه فيحلم بملاذ الطبيعة الأم الرؤم.
الصرخة الأولى
*أندمت يوما على قرار اتخذته ؟ كيف تخرج من تلك الورطة ؟
- شعور الندم نستشعره في وقائع وقرارات إذا صحّت هذه الكلمة الأخيرة، على رغم حدسنا الجواني بعبثية العالم.. لكن الورطة الأساس التي أشرت إليها بدأت منذ الولادة الأولى منذ الصرخة الأولى في وجه هذا العالم وما يتبقى نوافل وتفاصيل.
رموز القطار
* أيستهويك مشهد القطارات المغادرة .. ماهو القطار الذي انتظرته طويلا ولم يصل بعد لتركبه ؟ هل يهمك - كثيرا - وجهة تلك القطارات ؟ أم أن قرار ركوبها هو الأهم لديك ؟
- نعم يستهويني مشهد القطارات كثيراً فمطلع السبعينات حين ذهبت إلى القاهرة صغيراً كنت نائماً في حي الدُقي قريباً من حي بولاق الدكرور سمعت في خضم الليل القاهري صفيراً حسبته صفير بواخر راسية في البحر لكن في الصباح حين ذهبت في ذلك الاتجاه وجدت هناك سكة الحديد التي تمر بها القطارات.. ولأول مرة أشاهد هذا المارد الأسطوري يعبر.. ومنها أيضا صار القطار واقعاً ورمزاً في حياتي وكتاباتي. كنت أركب القطار (من حلب) عبر تركيا، أياماً وليالي حتى أصل إلى (بولندا) ثم أعود..
استباحة الأسرار
* ماهو السر الذي لم تقله يوما لأحد ؟
- استُبيحت كل الأسرار أمام كاميرات العالم، لكن يبقى هناك سِرّ واحد، لا يبوح به المرء إلا بعد رحيله النهائي، أي للموتى، عائلته المتآلفة المتناغمة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.