الوطن في معناه أعمق وأوسع وأكبر من أن يُقاس بالحيز المكاني للقرية أو المنطقة التي يولد فيها الإنسان، وأعظم من أن يُختزل في نطاق جغرافي إداري ضيق، أو نُفصّله حسب أهوائنا ونزعاتنا وأوهام مصالحنا الذاتية الأنانية الضيقة، فالوطن هو روح الانتماء الموحد للإنسان بالأرض في أواصر تعمقت وترسخت وقويت عبر الزمن في تراكم تاريخي حضاري ثقافي، على أساسه يتكون ويتشكل مفهوم الوطن في العقل وفي الوجدان، منه يستمد أبناؤه شخصيتهم المتميزة، ويتميز بما قدموا وأعطوا له، يكبر ويزداد علواً ورفعه بما يبذلونه من جهد وعمل مخلص لتطوره وتقدمه ورقيه المستمر، مدفوعين بقوة ذلك الشعور الروحي الفياض بحبه، والتضحية من أجل ان يبقى شامخاً ناهضاً مزدهراً. من هذا المنطلق وفي ظل الظروف الحرجة التي يمر بها اليمن فإن اليمنيين أحوج مايكون لإدراك معنى الوطن والمحافظة عليه من التصدع والتمزق، والتصدي لكل من يحاول تشويهه وحصره في نطاقات ترضي نزعاتهم المريضة وتطلعاتهم الضيقة، حتى لو كانت وسيلتهم لهذه الغاية تمزيق اليمن وتفتيته وتشظيه، ليتقاسموا أشلاءه نتفاً، غير مدركين بأنهم سيكونون في مقدمة من سيتمزق ويتشتت، وأن على كل الذين يفكرون في ذلك أن يعيدوا حساباتهم وأن يفكّروا جليّاً وان يقرأوا جيداً تاريخ وطنهم أرضاً وإنساناً البعيد منه والقريب، علهم يستفيدوا من دروسه وعِبره، فيعودون إلى الصواب، ويتبعون الحق الذي هو أولى بالاتباع، ليعمل الجميع من أجل خير وطنهم وشعبهم، بدلاً من الإيغال في الخطأ واللهث وراء سراب وأوهام المتغيرات الدولية الموجّهة لخدمة مصالح الأقوياء على حساب الضعفاء في عالمنا المعاصر، وفقاً للرؤية البرجماتية لليبراليين الجدد، موظفين طموحات البعض الذين لن يحصدوا في النهاية إلاّ أرضاً يباباً. لقد استطاع اليمنيون حتى الآن باتفاقهم على إجراء التسوية السياسية أن يحافظوا على وطنهم وأن يتجاوزا بذلك الأزمة التي ألمّت بهم عام 2011م ولكنهم لم يستطيعوا تجاوز آثارها وتداعياتها حتى الآن، فلقد أدركوا مبكراً، واستوعبوا جيداً معطيات الأحداث وتحولاتها ومخاطرها وتأثيراتها السلبية على وطنهم الذي جنبوه باتفاقهم كارثة الانهيار والاحتراب، وبرغم ذلك ظلت بعض القوى متمترسة وراء مواقفها المتشددة رافضة الرضوخ للإجماع الوطني، ولما اتفق عليه بتأييد إقليمي وعربي ودولي، غير مدركة خطورة مواقفها المتشددة على الوطن. وإذا عدنا قليلاً إلى الماضي القريب سنجد أن اليمنيين عندما تضيق بهم السبل وتصل أمورهم إلى طريق مسدود يغلبون الحكمة وينتهجون طريق الحوار المسؤول في كثير من المنعطفات التي تمر بها بلادهم فيتجاوزون كل خلافاتهم ويعملون معاً للتغلّب على كل الصعاب، وينتقلون باتفاقهم وتوافقهم إلى مرحلة جديدة من تاريخهم أكثر إشراقاً وازدهاراً. إن ما أصاب اليمن من تصدعات ومآسٍ وآلام بِفعل ممارسات البعض الحمقاء التي ألحقت الضرر بالوطن وأبنائه، ستظل محفورة في وجدان كل اليمنيين الذين ينشدون الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة، وستكون شاهدة على حجم جرم أولئك النفر الذي يحاول - ولايزال - تدمير الوطن وإشاعة الخوف والفوضى في أوساط المجتمع، وعرقلة جهود بناء الدولة المدنية الحديثة المنشودة، القائمة على قاعدة الحكم الرشيد، ومبادئ العدل والمساواة وسيادة النظام والقانون، والتي ستعمل على إنهاء المظاهر المسلحة والقضاء على الإرهاب وأعمال التخريب والتقطعات والقتل والاغتيالات، وتغليب المصلحة الوطنية على ماعداها من المصالح الأنانية الضيقة سواء كانت للأحزاب أو لأي قوة اجتماعية نافذة أو حتى للأفراد الذين يعتبرون أنفسهم فوق النظام والقانون.. ان الظروف الحساسة والحرجة التي تمر بها اليمن، تفرض على كل الذين يُغرّدون خارج السرب ويتعاملون مع قضايا الوطن بحسابات الربح والخسارة، ويعتبرون مصالحهم مقدمة على مصالح الوطن، التجرد من كل النزعات الشيطانية التي تعشعش في عقولهم وفي نفوسهم وضمائرهم والتي أضرت بالوطن في الماضي والحاضر وستضره أكثر في المستقبل، وأن يكفوا عن محاولاتهم تحويل الديمقراطية إلى ممارسات غوغائية وفوضوية تقضي على آخر الآمال في نجاح مؤتمر الحوار الوطني الشامل لإخراج اليمن من أزماته وإنهاء معاناته، فالمسؤولية الوطنية التي يتحملها اليمنيون تجاه وطنهم تُحتم عليهم العمل على تحقيق اصطفاف وطني واسع يقوم على قاعدة الحوار والحرية والديمقراطية، واحترام الرأي والرأي الآخر، والتحلي بروح الوفاق والتوافق التي تحافظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره، والتي تبني ولا تهدم، تجمّع ولا تفرّق، تقوّي ولا تُضعِف تماسك بنيان الجبهة الداخلية، ليمضي اليمنيون معاً صوب مواجهة تحدّيات هذه المرحلة الهامة من تاريخ اليمن التي تتسم بالعصيبة والمعقدة والدقيقة، وبما يمكنهم من التوجه نحو استشراف الغد الأفضل لليمن.