لم يكبر "مشعل السديري" أبداً.. فهو الرجل الذي لم يستطع الزمن أن يغلبه ويطوق روحه، لم يكن للوقت سطوة على ما يمكن أن يشعر به أو يدور بأعماقه من عالم.. فهو الكاتب الذي يكتب ليشبع من حياة تخذله كثيراً ولكنه يحب أن يمرح معها باللعب والسخرية التي تترف روحه بها.. انه الرجل الذي يكن بداخله طفلاً لم يكبر أبداً بقدر ذلك الشغب الذي كان بادياً عليه، بكل ذلك الحب للمراجيح والشواطئ وأغنية المساء التي تنام بين حكاياته وقصصه المفاجئة والغريبة وربما الباردة أحياناً.. ففي كل مرة كان يباغتني بإجابة تثير بداخلي الضحك الذي يليه صمت طويل وربما ينتهي بدموع المرارة، فهو يمنحنا التجربة ولكنها بوجهها الساخر المؤلم الذي تحيط بنا من حيث لاندري.. ونغرق في جشعها - أحياناً - لأننا لانحب أن نكون الجزء الأخرق في لعبتها.. هنا "مشعل السديري" يعلن بأنه مازال طيباً رغم وعوده بأن يتخلص من سذاجته، مازال ينشر غسيله وهو يعلم بأنه قد يتطاير في الفضاء، مازال القلب الذي يفتش عن أعزوفته الخاصة حتى إن كلفه ذلك أن ينقر بأصابعه على سطح مكتبه وحيداً ليصنع كمنجات.. ثم يسرقنا من الموقف ليقول: "السراب في عمري الذي كتب بالابتسامات من خلال الدموع "لكنه فجأة ودون مقدمات يغمز بإحدى عينيه في طيش ليقول " لكنني طفل يأكل بعقول الآخرين حلاوة".. بكل تلك التلقائية المربكة والاتساع الشاسع الذي يملكه بداخله.. "مشعل" يطل من خلال صفحة "على المكشوف" لا لكي يجيب على الأسئلة! بل لكي يوجه لنا كل الأسئلة التي تدس أصبعها في الروح لتثير كل الفوضى غير المتوقعة من التكهن والتأمل والرغبة في تجاوز حدود كل الكلام الذي يمكن أن يقوله، لأنه مجموعة أشخاص في كائن واحد مازال يعبر الطريق بعيون حالمة تتوق إلى شيء ما.. شيء ما.. قد يأتي وقد يتأخر وقد لايأتي أبدا.. الكاتب الساخر "مشعل السديري".. عبر "على المكشوف" يبوح بأسراره المعلنة التي قتلت بغير ذنب، ويخفي بعضاً من أسراره التي يخشى أن يفشيها "الطيب مشعل" يوماً ما.. هنا يشاغب ويطش أمواج البحر، وهنا يتأمل ويتذكر ويبكي.. وأخير يلوح لنا مودعاً فوق مؤخرة بعير!! الكتابة أكثر خبثاً * بدأت كرسام بعد أن درست الفن التشكيلي ولم تخرج سوى بمعرض فني واحد ثم انتهيت ككاتب.. فأي الفنين الإبداعيين أخرجاك بكامل إنسانيتك وصدقك؟ ولماذا هجرت الرسم التشكيلي إذا ما كان الفن التشكيلي صديقاً لخيال الكلمة والكتابة؟ - لم أهجر الفن التشكيلي ولم يهجرني، وإذا لم أتداركه الآن فهناك احتمال أنني سوف أتعايش معه لاحقاً، الذي أنا متأكد منه أن الفن هو عشقي (الأولاني)، وتأتي الكتابة في المرتبة الثانية، وقد اخترتها أو سلكتها لأنها أسرع في توصيل الأفكار والنوايا، كما أنها أكثر خبثاً. هناك من استغل سذاجتي ونشر غسيلي على الملأ لدغت مراراً ولم أتعلم من الدرس جيداً! لست ببطل * عرفت بالكاتب الساخر والمبكي والصادم والحاد.. فهل من الممكن أن نقول إن تلك صفات الكاتب "البطل "إن صح التعبير أو الكاتب المختلف؟ - ياليت ذلك التعبير يصح، ولكن الواقع يقول: إنني لابطل ولا مختلف (ولا الذي منه)، فما أنا سوى عازف ربابة عند مؤخرة بعير، فلا أنا الذي أطربته وحركته، ولا هو الذي استمتع بعزفي وشكرني على جهدي. الخروج من الدائرة * كتبت في الصحافة المحلية والآن تكتب في صحيفة دولية إلا أنك مازلت تخاطب ذات القارئ المحلي فما الذي منعك من القفز خارج الدائرة؟ ومالفرق بين الكتابتين؟ - بالعكس فقد خرجت من الدائرة المحلية، فأصبح الآن لا هم لي إلا هم نفسي (أشطح وأمرح وأرمح) في كل حدب وصوب، محلقاً في جهات الدنيا الأربع، وقد أمر بين الفينة والأخرى على دياري لأقبل فقط (ذا الجدار وذا الجدارا) مثلما فعل (قيس) رغم الفارق الشاسع بيني وبينه، فقيس المجنون يفعل ذلك من اجل ليلى، أما أنا فيا حسرة ليست معي لا ليلى ولا ما يحزنون، كنت أتمنى أن أشكو لك، غير أنني استدركت (فالشكوى لغير الله مذلة). خبط عشواء * مرت سنوات طويلة بك وأغرقتك الحياة من تجاربها وأحداثها.. بوجه تلك الحياة التي أعرضت وبجسد الحياة التي تلقفتك ككاتب أمازلت تصف حياتك بالخبط عشواء أم أنك بعد هذه السنوات وجدت ضالتك؟ - ما زلت أبحث عن ضالتي، ولكنني أبحث عنها مثلما يبحث الأعمى عن ابرة في كومة قش. مصافحة * ذكرت بأن لديك تحفظاً على المؤسسات الدينية وبطريقة تعاطيها مع القرارات المتعلقة بالمرأة والمجتمع.. برأيك أين تكمن الإشكالية في هذا الصراع؟ وكيف يمكن التوفيق بين الخطاب الديني والخطابات الأخرى؟ - أن يثق كل منهما بالآخر وأن يحبه في الله (كإنسان)، وليس شرطاً أن تكون بينهما معانقة، فالمصافحة وحدها تكفي إذا كانت صادقة. مازلت أبكي وأعشق وأحلم كما تحلم القطط مازلت حياً * في مقالاتك وحضورك الإعلامي تتجاوز الدائرة الاجتماعية وحدودها الضيقة واشتراطاتها الصعبة إلى عالم الفنان المحلق والمتجاوز.. كيف تعيش هذا الصراع بين مشعل السديري الكائن الاجتماعي وبين مشعل الفنان والصعلوك؟ وإلى أيهما تنحاز؟ ولماذا؟ - انحاز إلى مشعل المسكين الذي لا يدري بأي ذنب قتل، وهو رغم قتله ما زال يتحرك ويتنفس ويضحك ويبكي ويعشق ويأمل بل ويحلم كذلك مثلما تحلم القطط. الاختلاء بالروح * تفضل التغريد تحت دش الماء الساخن على أن تغرد عبر التوتير فماهي مشكلتك مع التوتير؟ أم أنك كائن منعزل يخشى مواجهة الجماهير؟ - لست منعزلاً، ولكنني أهوى (الاختلاء بنفسي) في أغلب الأحيان إلى حد بعيد، فقط لكي أمارس معها ألق الحياة الذي لا يأتي إلاّ بعد جهد جهيد من السمو والارتفاع عن الصغائر، وليس معنى ذلك أنني أحاول ارتداء ثياب القديسين، لا.. فليس هناك قداسه عندي غير قداسة الخالق جلّت قدرته، أما أنني أخشى مواجهة الجماهير فهذه (ضحكة)، ولو أنها حصلت لا سمح الله، لخاطبت تلك الجماهير مثلما خاطبها (القذافي) قائلاً لهم: من أنتم؟!، من أنتم؟!، ولكي تتأكدي من شجاعتي فقد سبق لي أن قابلت جماهير من الجن أو هكذا خيل لي ولم أرتعب وقتها، بل أنني رقصت معهم حول النار (رقصة المزمار). أصعب قراءة * كانت المرأة دائماً الفراشة التي تطير حول نور المصباح، تحاول كثيراً أن تخترق الضياء لكي تقتبس من شجاعتها مكانا لها بين النجوم.. كيف تقرأ المرأة بعد كل هذا الضجيج الاجتماعي والجدل الفكري والصراع الطويل حولها وحول أوضاعها؟ - أصعب قراءة في الدنيا، وفي كل الحقب والعصور من عهد آدم إلى سنة (2013) هي قراءة المرأة، ومن يقول غير ذلك، أو يدعى بسهولة قراءتها فهو أما ساذج غبي، أو مشكوك بقواه العقلية، ولكي لا يفهمني أحد غلط أقول: أن تلك الصعوبة إنما هي تحسب لها لا عليها. ومشكلة الرجل، أو بالأحرى مشكلة من يناصبونها العداء، أو يضيقون الخناق عليها، مشكلتهم أنهم لا يقرأونها (صح)، إلى درجة أنهم جعلوها حتى تشكك بنفسها، ولو أن الرجل تواضع قليلاً، وعرف أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، وحسنت قبل ذلك كله نيته، لكان من الممكن أن يفك (شفرتها) ويتهجّى ويتعلم أبجدياتها، ساعتها سوف تكون هي له (أطوع من بنانه)، ولكن بكرامة وعدم استعباد. ألا قاتل الله الحب * كم امرأة بداخل مشعل السديري استطاعت أن تحركه، أن تزلزل مابداخله، أن تأخذه معها ثم تعيده كائنا لايتوقف عن التوق والعبث وممارسة الحياة من خلال كلماتها وحضورها؟ كم امرأة قتلت؟ وكم امرأة قتلتك؟ - أنت بذلك صورتيني وكأنني تلميذ نجيب (لكازا نوڤا)، مع أنني لا اعدو سوى مجرد شحاذ تعيس يستجدى العشق أمام أبواب الغرام، ألا قاتل الله الحب (شو بيذل) مثلما يقول (غوار الطوشة). قرع الطبول * بعض الكتاب يحضرون (طبلاتهم) أو (طبولهم) قبل الحبر والكتابة.. ألم يطربك "طبل" ما في طول المشهد وعرضه؟ ومتى برأيك ينقرض الكاتب "الطبل"؟ - ينقرض الكاتب (الطبل) إذا انخزق طبله، وأنا لا تستهويني الطبول فحياتي كلها (كمنّجات في كمنّجات)، وإذا تعبت أو مللت من سماعها، أخذت أنقر بأصابعي على سطح المكتب، وكان الله يحب المحسنين. ليس للفشل مكان * نواجه الفشل.. لا لنهرب من تهمة الإخفاق بل لنكتشف كيف نكون قادرين على إعادة صقل أنفسنا من حيث إخفاقاتنا، لنرى كيف نكون حينما نفشل كيف نكبر به وعليه.. وماذا عنك أذقت طعم الفشل يوما؟ وماهي الفلسفة التي خرجت بها بعد تلك التجارب؟ - الفشل بمعنى اليأس ليس له مكان في حياتي، أما إذا كنت تقصدين الفشل في تجاربي التي خضتها، (فأوووووه، أوه) حدثي ولا حرج، وكارثتي المتأصلة أنني لا استفيد من تجاربي، فدائماً أكرر الخطأ مرات ومرات، مع أنني احفظ جيداً الحديث الشريف القائل: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، ومع ذلك تتزايد لدغاتي، ولا املك بعد كل هذا إلاّ أن أدعو: يا الله ثبتني على إيماني، وساعدني على تحمل اللدغات. من يشعل الفتيل؟ * هناك مدن للأحزان وأخرى للحب والبعض منها لكل شيء يأتي ليجعل منا بشرا بأرواح تتغير وتخلق من جديد.. فماهي المدينة التي تستفزك وتحرضك على الإبداع والجمال؟ - ليست المدينة هي التي تحرض على ذلك، ولكن الظروف هي التي تضفي على أي مدينة معطياتها المحرضة والمشعلة لفتيل الفرح أو الحزن والإبداع عموماً. الدائرة المتفجرة * تتجنب دوما الكتابة عن السياسة فهل ثمة خوف من الدائرة الشائكة أم ماذا؟ - ليس هناك أي خوف لا من الدائرة الشائكة ولا حتى الدائرة المتفجّرة، ولكن عدم الخوض في هكذا نوع من الكتابة هو (القرف) فقط لا غير. وسبق لي إن جربت ذلك، وكنت وقتها كمن يجدف في بحر من الرماد، لهذا تداركت نفسي وقفزت من القارب، تاركاً العشرات إن لم يكن المئات (يلتوّن ويعجنون) ويكتبون يومياً المقالات السياسية التي أكثرها يدمي القلب، غير أن المشكلة أنه لا غنى عنها، طالما أن عالمكم العربي مازال يرقص على (كف عفريت) منذ قرن من الزمان. الذات الحقيقية * أي الحالات تجد فيها ذاتك بشكلها الحقيقي والصادق في حالة الحزن أم الفرح؟ ولماذا؟ - أجد ذاتي الحقيقية عندما (يغمى) علىّ. حضور الجدة - رغم أنك تعيش في جدة إلا أنك قليل الكتابة عنها..؟ لماذا لاتحضر تلك "الجدة" في نصوصك؟ وماهو موقعها في حياتك؟ وكيف هي علاقتك بالبحر؟ * جده مثلما يقولون هي (أم الرخا والشدّة)، وموقعها في حياتي موقع (الكبد والمرارة)، أما علاقتي بالبحر، فكأي علاقة (اخطبوط) عاطفي ومشاكس. السراب * تتراوح بين إنسان الصحراء وإنسان البحر.. أيهما أكثر حضورا في حياتك وروحك؟ - الصحراء كامنة في حياتي، والبحر مضطرب في روحي، أما السراب فهو في عمري كله الذي كتبته بالابتسامات من خلال الدموع. السعادة بالشقاء * ما الذي بقي في الذاكرة من عبدالله نور ومحمد الثبيتي؟ - رحمهما الله، كان كل واحد منهما سعيداً في شقائه، وشقياً بسعادته، عبدالله كان أقرب لي من حبل الوريد لأنني عرفته وعايشته، محمد لم اعايشه ولكنني قرأته بإمعان، ولو أن الظروف جاملته والحياة أمهلته، فلا أبالغ لو قلت: انه من أروع الشعراء الذين أنجبتهم الأرض العربية. تكتيكات طفل * متى يتحرك الطفل الذي بداخلك؟ وماهي اللعبة التي يفضلها ويمارس طقوسه الخاصة بها؟ - أنت تسألينني: متى يتحرك الطفل الذي بداخلك؟!، وكان أحرى بك أن تسألينني: متى يتوقف عن الحركة؟!، وهو طفل للأسف متعدد الأوجه والغايات والنوازع و(التكتيكات)، وهذا هو ما جعله كثير الاضطراب والتناقض والوقوع بالمآزق، ولكنه من حسن الحظ فهو كلما وقع في مأزق، خرج منه مثلما تنسل الشعرة من العجين، وذلك بفعل إتقانه لأساليب (الشعوذة) الطفولية - إن جاز التعبير - التي هي كثيراً ما تنطلي على الآخرين، وبالتالي (يأكل بعقولهم حلاوة)، ويذهب ضاحكاً منهم وعليهم لست أنا الطفل الوحيد المخادع في هذا العالم، هناك غيري ما لا يقل عن سبعة مليارات طفل، غير أن الغالبية العظمى الساحقة لا يدركون ذلك. هناك سؤال (مفحم) وخالد وهو يقولون: هل نحن نعيش من اجل أن نأكل، أم أننا نأكل من أجل أن نعيش؟!، ولو ان الإنسان أجاب على هذا وترك ذاك لكانت (مصيبة)، ولو انه أختار العكس لكانت (كارثة)، إذن لابد وأن ندمج الاثنين معاً لتكون (الطامة الكبرى). لا أدري ما الذي دفعني إلى هذه الفلسفة (العدمّية) أو السلبيّة؟!، ولكنني أظن أنه الاندفاع ولا شيء غيره، لهذا يجب أن أخفف من غلوائي قليلاً لكي أؤكد أن الصعوبة في الإجابة على هذين السؤالين التعجيزيين إنما هو يقودنا حتماً على الاحتماء بطفولتنا، فلا شيء كالطفولة تجعل للحياة معنى و(مغنى). وما كل الأعمال والوظائف والاخترعات والصناعات والتجارة والفن والإبداع والألعاب الرياضية، كلها أنما هي أدوار وأصناف من لعب الأطفال، ولكننا لم ننتبه أو ندري. كائن من ريش * ما السر الذي لم تقله يوما لأحد؟ - سوف أفضى بسري لشخصي أنا دون سواه، فهو الإنسان الوحيد المؤتمن الذي أضمنه أنه لن يبوح به - أو هكذا هو المفترض - غير أنني اعترف لأول مرّة أن ذلك الشخص الذي هو أنا، والذي أودعته كل أسراري ووثقت به، كثيراً ما استغل طيبتي وسذاجتي - أو بمعنى أكثر دقه - فكثيراً ما استغل غبائي وراح يثرثر بها على (اللي يسوي واللي ما يسوي)، وبعدها ينتشر غسيلي على الملأ، لأغرق بكسوفي، كنت اعتقد أنني إنسان كتوم، ثم أتضح لي أنني حالم. كنت اجزم أنني إنسان قوي، ثم أتضح لي أنني ريشة عصفور. كنت على يقين أنني إنسان شجاع، ثم أتضح لي أنني إنسان أسير دائماً بجانب الحائط وأقول: (يالله السلامة). صورة لمشعل السديري في الطفولة عبدالله نور محمد الثبيتي مشعل السديري في حفل قناة العربية