ربما لا يعرف كثيرون أن الكاتب الكبير مشعل السديري كانت دراسته في مجال الفن التشكيلي، ولم يتجه للكتابة إلا بعد نكسة حزيران أو حرب الأيام الستة 1967م، التي وقعت بالتزامن مع المعرض التشكيلي اليتيم أو الوحيد في روما الذي صادف افتتاحه يوم 5 حزيران من عام 1967م. ولهذا قال مشعل إن المعرض فشل بالطبع فشلاً ذريعاً لأنه لم يحضره غيري وغير حارس الأتليه، وكان لزاماً علي والحال كذلك أن أجمع لوحاتي وأبعثرها على كل من هب ودب.. على أن مصيبته في أمته كانت أكبر من مصيبته في لوحاته، فقد قرر أن يهجر الرسم ويتجه للكتابة على أساس أنها تستطيع أن تعبر عما يجيش في نفسه بطريقة أسرع وأبلغ وأكثر تأثيراً، ولهذا انطلق في الكتابة الساخرة المضحكة المبكية على حد سواء!وفي الثمانينيات الميلادية لمع نجمه كثيراً في كتابة المطولات في الشأن العام، وخاطبت مقالاته الوزراء في رسائل مفتوحة تتساءل وتنتقد وتلاحظ في خطاب وطني مشاكس وجريء! استطاعت صحيفة “الشرق” أن تعيد مشعل السديري إلى نكسة 67م وهو الذي عايشها وتجرع ويلاتها وكانت لديه تحفظاته على تلك المرحلة وعلى التجربة الناصرية، وما كان له أن يدونها بكل هذه المرارة الجارحة إلا بعد ظهور شاهد من أهلها هو محمد حسنين هيكل بحلقات تلفزيونية على قناة الجزيرة ترصد كيف كان يفكر الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي أخذ الألباب وسحر عقول الجماهير من المحيط إلى الخليج قبل قلوبها! وهنا على صفحات “الشرق” أو في هذه الصفحة سيكون “مشعل السديري” معنا لبضعة أيام ليتداخل مع هيكل ويدلي بشهادته الحارقة على تلك المرحلة الموجعة في حياة الأمة العربية. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الحلقات كانت ومازالت مشروع “كتاب جديد” سيصدره الكاتب الكبير قريباً. علي مكي عبد الناصر في جولاته الميدانية حلقات يكتبها: مشعل السديري لم يذبحنا غير هذا التدليل للزعماء.. الجماهير العربية تعلقت بهم بطريقة عميانية أي حرب هذه التي أراد أن يخوضها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر؟ الملك الأردني حسين كان بين أمرين.. إما المشاركة في الحرب أو فقد حكمه وأخذ هيكل يتكلم وكأنه يريد أن يبعد أي مسؤولية عنه وها هو يقول عن عبد الناصر: إذا بدا أنه بيديني دور أكبر أنا متأسف ما كانش لي الدور الأكبر، كنت موجوداً في هذه الأزمة مراقباً ومهتماً ولكن في غيري كثير قوي كانوا موجودين في الأزمة أنا عايز أن أضغط ده لأنه أخشى جداً أن يتصور أحد أنني أنسب لنفسي ما ليس لي وأنا مش عايز على أي حال يعني لكن أنا هنا أنا كنت بتابع وبدا لي لحظة من اللحظات بدا لي أن جمال عبد الناصر الأزمة واخداه أو أن التصعيد قد يفلت بشكل ما وفي لحظة من اللحظات أنا مستعد اقول إنه انا كنت خائفاً عليه جداً من السويس. هي أنه واحد يلاقي نفسه في موقف معين يتشابه مع موقف سابق في بعض ملامحه فيتصرف بنفس الطريقة التي تصرف بها سابقاً، ولكن المواقف لا تتكرر في التاريخ. ويستطرد هيكل بالكلام: قبل 67 هذا رجل نظر إليه في العالم العربي وفي العالم الثالث وفي العالم الخارجي وفي حركة التحرر الوطني على أنه شخصية أسطورية والآن في عدة أيام تحول الموقف، الموقف تحول وبطريقة صادمة وبسرعة ولم تكن متوقعة، أنه أصبح يصارع هذ الكبرياء الموجود وهي طبيعية لرجل دللته الأمة كما لم تدلل رجلاً آخر وأظن أنها أعطته كثيراً جداً. ويحق لي هنا أن أتدخل وأرد على هيكل بكل أدب وأقول: نحن لم يذبحنا غير هذا (الدلال أو التدليل)، مع الأسف أن جماهير عربية عريضة هامت وتعلقت بزعمائها بطريقة عميانية عاطفية مغيبة، مثلما يتعلق أي مراهق بمطرب أو ممثل، ونسيت هذه الجماهير أن مصيرها ومستقبلها معلق بذلك الزعيم الذي قد تكون له أمراضه النفسية، وطموحاته الشخصية، ومزاجه المضطرب، ونقاط ضعفه، فتنعكس هذه كلها على قراراته الحاسمة التي يتخذها منفرداً فتقع الواقعة وتكون الكارثة، إن تهليل الجماهير، والتغني بالانتصارات الكاذبة تودي ببعض العقول مثلما يودي بها المسكر. ويمضي هيكل ليتكلم بعقلانية واضحة ويقول: عبدالناصر والقذافي وخلفهما هيكل بالنسبة للضمير العام للشعب المصري والأمة العربية كلها لسوء الحظ الجدل الذي دار حوله أخذ مسارين إما مسار محاولة التشهير واتخاذ الحرب وما جرى فيها كمادة سياسية وإما في مقابل التشهير محاولة التبرير لتبرئة رجل أو تبرئة رجال وكلا المنهجين في اعتقادي خاطئ جداً لأن هذا موضوع يملكه ناس آخرون، يملكه تاريخ آخر، يملكه مستقبل. وبعيداً عن هيكل كانت المفاجأة او (المفاجعة) الكبرى هي وصول الملك حسين بطائرته التي يقودها بنفسه قبل أيام من الحرب، دون أن يستأذن عبد الناصر، رغم (ما صنعه الحدّاد) ورغم الخصومة المستعرة بينهما منذ سنوات، إلى درجة أن عبد الناصر عندما استقبله قال له مازحاً: إنني استطيع أن أعتقلك الآن. على أي حال ففي اعتقادي أن حسين بذكائه وبعد نظره أحس واستشرف أن الحرب واقعة لا محالة، وكان بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن يرغم عبد الناصر ويوقع معه إتفاقية دفاع مشترك ويخوض معه الحرب وقد تضيع في هذه الحالة الضفة الغربية بكاملها، وإما أن ينأى بنفسه عن الحرب، ومعنى ذلك لا محالة أيضاً أنه سوف يفقد حكمه، لأن الجماهير المعبأة والمشحونة سوف تثور عليه، خصوصاً أن الحكومة في القاهرة بدون أدنى شك سوف تجدها فرصة لتضع اللوم عليه، وليس هناك أسهل من أن تتهمه بالخيانة، وسوف تجد العذر الجاهز والتبرير المقنع أمام الجماهير، وتقول لها بكل بساطة (وقواية عين): إنه لولا الخيانة وتخاذل الأردن بعدم فتح جبهة قتال على إسرائيل لكانت النتائج مختلفة ولما وقعت الهزيمة، بل إن البعض تمنوا من أعماق قلوبهم لو أن الأردن لم يدخل ليس حباً في الضفة والمحافظة عليها، ولكن ليجدوا لهم عذراً أمام التاريخ الذي لا يرحم. المهم أن الملك حسين ركب المركب الصعب وأي مركب ؟!، ومن زيادة حذره أصر أيضاً على أن يكون قائد جيشه مصرياً لهذا أخذ معه بالطائرة (عبد المنعم رياض) وسلمه جيشه، لكي يبرئ ساحته نهائياً وينفض يديه. ومن الأشياء أو التصرفات التي لا أدري ماذا أصنفها من الناحية (العمريّة) للإنسان أن الرئيس عبد الناصر عندما تبينت له حجم المصيبة اتصل بالملك حسين ليقنعه بأن يصدر الاثنان بيانا ً يدّعيان فيه أن الطائرات الأمريكية والبريطانية قد اشتركت بالحرب، وكأن الحكاية (لعبة استغمّاية) بين أطفال(!!) ومن سوء الحظ أن اجهزة الرصد الإسرائيلية التقطت المكالمة وسجلتها وبثتها على العالم كله، وكانت فضيحة من ضمن الفضائح، ولم يستطع أحد أن يكذبها بما فيهم هيكل الذي اعترف بها ويعود هيكل مرة أخرى لينتقد زحف الجيش المصري إلى سيناء في مظاهرة هي أشبه ما تكون بالاستعراضية ويقول: أن تكون ذاهبة وعارفة إنها مش (مناورة)، القوات يجب أن تكون ذاهبة وهي تعلم أن احتمال القتال وارد. عبدالناصر في خطاب له ومن شدّة اهتمام وتحفّز (إسحاق رابين) أنه كان يدخن كثيراً، ويتهكم عليه هيكل في مجال ليس فيه مكان للتهكم ويقول: في هذا اليوم أصيب رابين بتسمم (النيكوتين)، ونسى أن عبد الناصر في ذلك الوقت كان يدخن في اليوم الواحد ما لا يقل عن خمس (بكيتات) من السجائر ومع ذلك لم يصب بالتسمم، ويبدو لي أن تدخين عن تدخين يفرق، وهذه النقطة ليس لها أهمية لا في مجال الحرب ولا مجال السلم، ولكنها وردت عرضاً، فاعذروني. ويعود مرة أخرى للحالة التي كان عليها عبد الحكيم وللحالة التي كان عليها عبد الناصر أيضاً عندما وقفا عاجزين عن التصرف حيال هذه النكبة التي حلت عليهما، ويقول عن ناصر تحديداً: أنا كنت حاسس أنه في أحد عاوز يهرب من الحقيقة، عاوز ينام، عاوز يعمل أي حاجة لكن لم يعد يستطيع أن يواجه هذا لأنه ثقيل على أعصابه. ثم يورد هذا البيت من الشعر المعبّر عن حالة الاثنين ناصر وعامر: غلبوا على أعصابهم فتوهموا أوهام مغلوب على أعصابه ولا بأس أن أعود مرّة أخرى لسبب الحرب (الواهي) الذي سبب هذا الطوفان و(السونامي) الذي أغرق ولازال يغرق كل الأحلام والآمال العربية ألا وهي قصة (الحشود) الإسرائيلية على سوريا، وهي (القشة التي قصمت ظهر البعير)، يقول هيكل بكل صراحة: الحقيقة لوحدها تكفي أن تقول إن هنا كان في مسؤولية دونما داعي إلى كل هذا الذي جرى لأنه استغل وأنا أعتقد أن هذا جزء من طلاسم 67. سوريا كان في عليها حشود، الحشود مش الحشود، مش أنا اللي أقولها، تقارير الأممالمتحدة واضحة فيها، لما راح الفريق فوزي يوم 14 مايو يتأكد من هذه الحشود لم تكن موجودة وأنا بأقولها بوضوح. طيب إذا كانت هذه هي الحقيقة وهذا هو الحال، أليس هناك رجل عاقل، ورجل شجاع يقول للحصان الجامح (اش يا حصان) ويوقفه عن رمي بلاده في التهلكة؟! كيف لم توات الشجاعة الفريق فوزي وهو الذي ذهب إلى سوريا وشاهد (بأم عينه) وتأكد أن لا حشود هناك، كيف لم يكن له (موقفاً)؟!، كيف سمح لنفسه أن يوجه ذلك الخطاب (غير المسؤول) للجنرال (ريكي) بسحب قوات الطوارئ، التي كانت هي بمثابة ورقة (التوت) التي تغطي بعض السوآت؟!، فلما انتزعت ظهرت البلاوي، المشكلة أن تلك الغلطة تكررت مرة أخرى ولكن على (اسخم)، وإذا كنا قد نجد العذر للعسكريين بجهلهم، فأين نجد العذر للدبلوماسيين المصريين وعلى رأسهم عميد الدبلوماسية (محمود فوزي) عند بلعوا الطعم، ولم يستطيعوا أن يفرقوا في قبولهم لقرار 242 بين (الأراضي) التي احتلت، وبين (أراض) قد احتلت.. وعندما اعترض (أحمد حسن البكر) رئيس العراق في ذلك الوقت على قبول مصر بمشروع روجرز، رد عليه عبد الناصر بخطاب جاء فيه: إذا كان بإمكاننا تخليص القدس العربية والضفة الغربية والجولان وسيناء من الاحتلال، فلست أدري لماذا لا نتحرك؟! وسؤالي هو: أليس ذلك هو ما سعى له السادات فيما بعد؟! هيكل «أقصى اليسار» مع أسرة جمال عبد الناصر ولن أنسى ما حييت منظر صورة ابنة (دايان) ترقص رقصة (التانغو) مع أحد الشباب من الجنود الإسرائيليين على ضفاف قناة السويس في اليوم الثالث من الحرب، وتحت أقدامها لا يقل عن ثلاثين شاباً من الجنود المصريين الأسرى منبطحين على الأرض. فأي حرب هذه التي أراد أن يخوضها (عبد الناصر وعبد الحكيم)، إذا كان ناصر قابع في بيته يستمع إلى بيانات أحمد سعيد وبعيد كل البعد عن (غرفة العمليات)، وعامر معلّق بين السماء والأرض لا يعلم ماذا حل بقواته ثم يصدر أوامره من الطائرة وهو (معصوب العينين) مثلما يقول هيكل: عبد الحكيم عامر وهو في الطائرة أصدر قراراً وأنا بأعتقد أنه كان قراراً مهماً جداً وخطر، وهو تنفيذ الخطة فهد، وهو لايزال في الطائرة، الخطة فهد هي الخطة المتعلقة بدور الطيران في العملية في الخطة قاهر. إنها لم تكن الخطة قاهر، ولكنه (القهر) الذي أكل صدور الملايين من العرب الذين يعرفون كيف يصفقون ويهتفون ويبصمون، ولكنهم للأسف لا يعرفون كيف يفكرون. ثم يأتي هيكل ليصفعنا بكل برودة أعصاب ليقول لنا: لكن في كل الأحوال جمال عبد الناصر قاعد، المعركة بدأت، أظن أنها لم تكن مفاجئة له لأنه كان بيتوقعها، بدأ يتابع التطورات ولكنه لا يريد أن يقتحم على عبد الحكيم خلوته وإدارته للمعركة. يا حلاوة، يا بختنا بذلك التوقع (العبقري)، ويا بختنا بتلك (القعدة) المريحة، ويا بختنا بتلك الخلوة والإدارة لتلك المعركة (الدونكوّشوتيه). ألستم معي ان الخوض في هكذا موضوع مؤلم؟!، خصوصاً إذا كان ذلك الموضوع ينتمي إلى مدرسة اللامعقول أو بمعنى أصح إلى مدرسة (العبث) في فن الأدب ؟! ولا يكفي بعد كل ما حدث أن يقول عبد الناصر لهيكل: إنني لا استطيع أن أتصور ما سيفعله الناس. والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم.. لهم الحق. لا يكفي هذا، فالقضية ليست قضية شنق إنها (أعوص) من ذلك بكثير، لأن الأمة العربية لازالت بعد كل ما حصل، لازالت واقفة (محلّك سر) أمام حبل المشنقة. مظاهرات بعد النكسة تطلب تراجع عبد الناصر عن التنحي في الحلقة المقبلة * هيكل هو الذي صاغ كتاب «فلسفة الثورة» من أوله لآخره.. وعبدالناصر وضع عليه اسمه * هيكل بكل بساطة أصبح الآمر الناهي في طول البلاد المصرية وعرضها في أخطر الأوقات * أقول لكل معجب بهيكل وعبد الناصر..لا تستطيع أن تحمل بطيختين بيد واحدة * النهاية الحقيقية لم تصل بعد.. فهناك أسرار وفضائح لم تكتشف حلقات “هل تجنّى هيكل على عبدالناصر؟!” لمشعل السديري: 1.لا تلوموني إن نكأت الجرح لأدير الرؤوس وأذكركم «بمصيبة» 67م 2.لو تحلّى عبد الناصر ب «ربع» صبر «ماو» لما أخذت السفن الإسرائيلية تمرح في مضيق العقبة 3.أيّ جنون هذا الذي يرمي بجيش هذه حاله في أتون حرب يترتب عليها مصير أمة ومصير أجيال؟! 4.مشكلة عبدالناصر في 67 أنه تأثر بأزمة صواريخ كوبا.. ونسي أنه ليس كينيدي 5.لا أظن أن الحساب قد جرى من الشعب.. ولكنني على يقين أنه سوف يجري يوم الدين 6.المأساة بدأت عندما شنَّ الطيران الإسرائيلي هجومه الذي انتظرته القيادة المصرية وقالت له: أهلاً وسهلاً 7.صورة «الزعيم الخالد» تهتز إن لم تكن قد تحطمت!