حين تكتب "نصاً أدبياً" قد تستجمع بعضاً من مشاعرك وبعضاً من خيالاتك وبعضاً مما شاهدته على الواقع، قد تمزج بين ما تتمناه ولم تحصل عليه وبين ما مررت به ولم تقدر قيمته، قد تدون تجربة كما حصلت أو تصف التفاصيل التي لم تحدث أو كنت تتمنى أن تحدث، تأخذ الكتابة مسارها الخاص بعيدا عمّا كنت تريده، قد تبدأ السطر بجملة يقينية وتنهيها بحوار ينسف كل ما كتبته في السابق. الكتابة تخرج من حالة التدوين الحرفي إلى حالة الإبداع الكتابي في استحداث الفكرة واختيار المفردة هذا الابداع الذي يداعب عقلك ويحرك مشاعرك، إلى حالة تجل فكري تنقلك إلى مكان لم تزره من قبل. ينتقل النص لحالة ابداعية أخرى حين يتحول لعمل فني مسرحي أو سينمائي أو تلفزيوني، تتجسد الشخصيات وتحضر الأماكن بتفاصيلها الدقيقة. كل هذا وجدته أمامي حين حضرت مسرحية "بيتر و أليس" حيث تقف الممثلة "جودي دنش" لتجسد شخصية "أليس" التي بنيت عليها قصة "أليس في بلاد العجائب" وهي سيدة في الثمانين لم تعد تلك الطفلة الصغيرة التي ألهمت الكاتب. تبنى المسرحية على تفاصيل مفترضة للقاء حدث بين "أليس" وهي في عمر الثمانين وبين "بيتر بان" وهو في الثلاثينيات من عمره والذي يجسد شخصيته الممثل "بين ويشهاو"، شخصيتان يعرفهمها كل طفل قرأ تلك الحكايات وعاش تلك المغامرات الخيالية. حين يجتمع عالم الطفولة وعالم الأدب تأتي قصص مبهرة في تفاصيلها وأحداثها الغريبة والجميلة حيث لا مستحيل ولا عائق. "النص" يعالج علاقة الكاتب بالشخصية التي يبتكرها يناقش تعلقه بهذه الشخصية "حقيقية كانت أو من صنع خياله" واهتمامه بها من خلال شخصيات كل كاتب قصة أليس وقصة بيتر.. يتحدث عن علاقاتنا الغريبة بالذكريات بالماضي حين ننتقي مشاعرنا او نغيبها من خلال شخصيتي "بيتر و أليس". يناقش الطفولة بكل فضائها الواسع حيث لا حواجز تعطل الحاضر ولا خوف من المستقبل. كل ذلك من خلال تخيل للأحداث وللحوار وتداعياته بين "بيتر وأليس" بيتر بأعوامه الثلاثين وأليس ذات الثمانين عاما، لم يعودا طفلين ملهمين لقصص شغلا الكثيرين، بل مضى كل منهما في حياته بكل إحباطاتها ومفاجآتها بكل جميل وسيىء فيها. يلتقيان وكل منهما لم يعد ذلك الطفل الذي يظن أنه يستطيع الطيران أو الهروب إلى عالم آخر، لم يعد ذلك الطفل الذي لا يكبر أبدا أو تلك الفتاة بشعرها الأشقر. حوار ممتع عن الحياة وعن الإنسان بكل مشاعره الظاهرة أو التي يخفيها. تنسى أنك أمام "جودي دنش" بشعرها الأبيض حيث تنقلك بتعابير وجهها إلى أيام طفولتها فتراها طفلة بريئة. اجتمع النص المحكم ببراعة الممثلين وفلسفة الكاتب ورؤيته الشخصية التي تجعلك تفكر في حياتك ومسارها، بما خسرته وما كسبته وما صنعه بك التردد وما أخذتك نحوه المغامرة. ويجعلك أيضا تفكر بالكاتب واستحواذ الشخصيات التي يكتبها على تفكيره وعلاقته بها وبما تعبر عنه. الفن... بكل صوره جميل حين يجعلك تخرج منتشيا تفكر وتتأمل.