ليس غريبا أن يبحث المسرحيون السعوديون عن مسرح يحقق أدنى استحقاقات الأداء المسرحي الذي يبني رؤية بحجم العمق الحضاري للمجتمع، غير أن الفجوة الثقافية بين المجتمع والمسرح ذاته تعطل طموح المسرحيين وتضعهم في غير موضعهم من الإعراب الثقافي، ولذلك حين تآلفوا والتفوا حول بعضهم في ملتقى النص المسرحي الأول، أخيرا، إنما كان ذلك محاولة للالتفاف على المساحة الخالية بين المسرح والمجتمع، وهي المساحة التي ينبغي أن يتحقق فيها التفاعل المطلوب لقيام المسرح بدوره التنويري والثقافي، ولذلك فإن مسرح الواقع يحتفظ بأوركسترا شاسعة تجعل العمق الرؤيوي محفوفا بالخروج عن الإطار الدلالي للمسرحيين فيما يقدمونه ويسعون لتحقيقه، ولذلك لم يكن من خيار بعد عقود من الجمود أن ينفجر المشهد عن مثل هذا الملتقى لإعادة النظر في حكاية الواقع المسرحية. كانت الاستلهامات الفكرية للنص المسرحي السعودي أول ما جلس إليه المسرحيون في الملتقى، لطرح مجريات وأسس بناء النص المسرحي بوصفه العمود الفقري لأي منجز درامي على خشبة المسرح، ولذلك تكثفت رؤى محمد العثيم وعبدالعزيز السماعيل وسامي الجمعان، في تلك الجلسة ليقدم العثيم ورقة «نص عربي من طقس إنساني» فهتف بموضوعية وشفافية «بدأنا أغرابا في المسرح وانتهينا أغرابا» وهي فكرة جريئة في تشخيص علة المسرح السعودي، فالفكرة هي الأساس الذي يقدم الأعمال الفنية، ولذلك اعترف بما يمكن أن يكون جفوة «الجمهور استحق الريادة برفضه الخطأ في مسرح الثقافة واتجاهه نحو البديل»، ولكن ما ذلك البديل في ذات السياق الفكري؟ ويتجه مباشرة إلى إجابة السؤال التقريري «صعوبة احتواء جو مسرحي كامل هي السبب في اقتصار المسرحيين على تلمس الاجتهادات في الوقت الذي انصرفت فيه العناصر المسرحية الجيدة نحو الترفيه بوصفه خيارا جماهيريا مربحا، بغض النظر عن مدى نوعيته وصحته، فالناس دائما على حق» وهكذا أجرى واقع المسرح على نسق الواقع الاستهلاكي حينما يكون الزبون على حق، ليقفز إلى سؤال واقع لا يقل مرارة «هل يوجد مسرح عربي»؟ ولا يجيب عنه غير أنه يرفضه «السؤال يعد ظالما للمسرحيين من منطلقات ماهية وفكرة المسرح بوصفه العامل الإنساني المختلف عن كل فكرة تواصل اجتماعي آخر». معطيات التراث عبدالعزيز السماعيل استعاد القيم التراثية بوصفها جذورا للفكرة المسرحية من واقع تجاربه الشخصية، وذلك من خلال ورقة «استلهام التراث الشعبي في المسرح»، وقدم رؤية واقعية لفهمه للتراث بوصفه مكونا ثقافيا تشكل في وعيه ووجدانه وذاكرته قبل أن يحضر في نصه المسرحي، وأنتج تفاعله مع التراث الشعبي والبيئة المحلية التي تطورت مع معطيات ذلك التراث حضور ثيمة أصيلة له، منها «موت المغني فرج» و«الصرام»، ذلك جعله متحفزا للاستكشاف «كان لا بد لي من تتبعها نقديا وفنيا لإدراك المعنى الحقيقي لها وقيمتها وبالتالي التعامل معها كخاصية مميزة في كتابة النص المسرحي والدرامي مستقبلا». غير أن المعطيات التراث كملهم مسرحي لم تجنبه ذلك القلق الإبداعي من العلاقة النصية مع التراث الذي يفرض تداعيات غير تلك التي يتجه إليها فتسقط نتائج ساكنة وعكسية مسطحة لعملية الاندفاع الانتمائي المجرد نحو التراث «إذا كان التراث مقصودا في ذاته لتحقيق هوية المسرح الذي ننتمي إليه فسيلزمنا ذلك بالضرورة إيجاد وعي أكثر أهمية وحساسية بالتراث نفسه حتى نستطيع أن نستخلص من خصوصيتنا ما يميز الفن الذي نقدمه». دهشة القص سامي الجمعان يستعيد حكاية التاريخ ليرتكز على الاستلهام في ورقة «الوعي بتوظيف الحكاية في المسرح السعودي» وبدا متجها إلى عمق النص المسرحي وتجريده من السطحية «يتطلب، أي النص، إعدادا كبيرا على مستوى الثقافة والوعي والإدراك، لتبدأ مرحلة البحث الجاد وترتيب الأوراق»، وتناوله كان من واقع تجربته المسرحية بكل تفاصيلها، ولذلك فإنه في مرحلة البحث اكتشف المفاجأة التي لم تكن سوى «الحكاية» ودهشة «القص»، والمبنية على مرجعيات عديدة في الثقافة العربية كألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والبخلاء. وظلت الحكاية ومدلولاتها منهج الجمعان في استلهاماته وتداعياته الإبداعية «الوفاء للحكاية في نصي المسرحي جزء من بنيته الأساسية، وإن كانت في جانبها التوظيفي مغامرة يحفها الخطر إذا لم يتمكن الكاتب المسرحي من تخليصها من سلطة السرد وقوة حضوره، ولم يتمكن من بث الروح الدرامية وبعثها في السرد وتحريك الساكن في النص الحكائي الأصلي ودمجه في اشتراطات المنظور». مونولوجات دون دراما الجلسة الثانية للملتقى احتملت واحتشدت بمقاربات انتقلت من الفكرة المسرحية إلى الواقع المسرحي وأنواعه الفنية، وابتدرتها الدكتورة ملحة عبدالله بورقة «المونودراما وأزمة المصطلح» ونحت بها نقديا لتشريح هذا النوع المسرحي: «العرب استوردوا المونودراما عن أوروبا دون أن يجدوا له تعريفا جامعا مانعا ليسكن في إطار المسرح ويتفرد بخصوصيته»، وذلك ما لم يكن إبداعيا على إطلاقه: «ذلك أنتج مسخا مشوها لمصطلح المونودراما جعله في قلق دائم يتلاعب بذهنية المبدع والمتلقي في الوقت نفسه». لكن الخلط في التعاطي مع هذا المصطلح كقيمة فنية مما يقلق الدكتورة عبدالله، ولذلك أسقطت رؤيتها الحاسمة لواقعه «المونودراما العربية تحولت بفعل الخلط الاصطلاحي إلى هذيانات أو مونولوجات تفتقر إلى الدراما». وللاقتراب أكثر من رؤاها البحثية قدمت رؤية تطبيقية لمسرح المونودراما من خلال منجزيها «العازفة» و«إتش ون إن ون»، ولم يكن أمام الدكتورة أن تغادر مسرح الورقة قبل أن تحدد بدقة مصطلح المونودراما «هو محاكاة لفعل درامي محدد له طول معين لشخصية واحدة يقدمها ممثل واحد مستعرضا أزمة الشخصية مع نفسها أو تجاه الآخرين من خلال المناجاة والجانبية والحوار مع شخصيات افتراضية ومشفوعا بألوان التزين الفني». مسرح شائك وعلى ذات النسق من حديث التجربة طرح عبدالعزيز الصقعبي في ورقته «صخب الآخرين في الجسد الواحد.. حديث عن تجربة المونودراما» مرئيات عميقة لطقوس وحركة النص المونودرامي «عندما تكتب نصا مسرحيا شائكا ومشوقا كنص الممثل الواحد فلا بد أن تتخيل نفسك كعازف عود، بحيث تتلاعب بالأوتار لتخرج أصواتا متناغمة وتمتع كل مستمع». وكان الانحراف بالمنهج الدرامي لنص المونودراما مما استثار الصقعبي وهو ممن يحاولون ضبط النص وفقا لأقيسته الفنية والإبداعية «الحاجة ليست ضرورية لتقديم مونودراما بقدر ما هي مهمة لكتابة أعمال مسرحية متكاملة»، وانتهى إلى «نحن في لقاء يهتم بالنص المسرحي يجب أن نخرج بصيغة توصية لكتابة نص مسرحي متميز، لا نريد مسرحيات الفصل الواحد ولا مسرحيات المونودراما، بل نريد مسرحيات تقرن المتعة بالفائدة». النص المعمر وكانت «تقاسيم على التجربة» ورقة فهد ردة الحارثي التي استعاد فيها بدايته المونودرامية من واقع «أن المونودراما ترتبط بصلة رحم مع الحكي والحكواتية وتربطها صلة جوار عميقة بالسرد والسارد»، وبما أن الطرح عن التجربة فقد تناول عددا من أعماله منذ أول تجربة له في عام 1996، ليؤطر التجربة بمجملها في تقاسيم محددة «النص المونودرامي نص معمر وقد يعود ذلك إلى قلة إمكانياته وكثافة الانسجام بين طاقمه الذي يكون في حالة ذوبان في الشخصية الواحدة والصوت الواحد»، ويلقي مزيدا من الإضاءات «تحتاج المونودراما إلى فريق عمل يمسك بكامل تفاصيلها وكاتب متمكن من أدواته وقدرته على وضع الأصوات في الصوت والشخصيات في الشخصية»، وينتهي إلى أهمية ألا تسرق لعبة الحكي والسرد كاتب المونودراما عن صنع الحدث المسرحي ومساعدة الممثل والمخرج على إيجاد أدوات اللعبة في لغة العرض. أين مسرح الطفل؟ تتبعت وتناولت الجلسة الثالثة للملتقى مسرح الطفل ومساراته بين الواقع والمأمول، ليستهلها فهد الحوشاني بورقة «مسرح الطفل الحاضر الغائب» وهي بمثابة جلد للذات حينا، وشفافية نوعية في استقصاء واقع هذا المسرح برؤية نقدية مفرطة في الموضوعية «اقتصر مسرح الطفل على اللون التقليدي بسبب غياب التأهيل الأكاديمي الذي يمنح الكاتب المعرفة بالأنواع الأخرى»، وبإشارة تتدفق أسى على واقع هذا المسرح يشير إلى الأهمية الحضارية والفائدة التعليمية والتثقيفية لمسرح الطفل وقيام دول متقدمة بتفعيله والاستثمار فيه بينما بقي الموقف المحلي منه مراوحا بين مؤيد له ومن لا يرى له أهمية تذكر، بل إن هناك من ينظر له بعين الدونية أحيانا، وهو ما أدى في محصلته إلى وجود أعمال ضئيلة جدا في هذا المجال مقارنة بحجم الاحتياج إليه، وكمن بدا صارخا أعلن «ليس لدينا مسرح طفل». مبدعون لا تربويون وفي إطار الدور التربوي لمسرح الطفل قدم يحيى العلكمي ورقة «مسرح الطفل، الفعل التربوي وأثره» وهي التي اتخذت مسارا استقصائيا للأسس الفنية والبنائية وأهم الإشكالات التي تواجه هذا اللون المسرحي «هو عمل فني بالدرجة الأولى قبل أن يكون عملا تربويا»، وذلك يعني الحاجة إلى مبدعين قبل أن يكونوا تربويين «نحن بحاجة إلى كتاب مبدعين في مسرح الطفل يتمتعون بخبرات الحياة ونظريات المعرفة، فمسرح الطفل ليس تبسيطا لأدب الكبار، ومسرحهم إنما هو تشكل خاص له قوامه وخصائصه وأثره القيمي التربوي النافذ في شخصية وسلوك الطفل». وكان المنظور السلوكي بوصفه من الأدوات المسرحية النظرية حاضرا في تناول العلكمي من خلال طرحه لمفهوم اللعب لدى الطفل بوصفه حالة سلوكية إيجابية فاعلة ومع الدراما –المسرح - عند الطفل باعتبارها شكلا من تصرفاته وتمظهرات أداءاته الانفعالية. احترام الطفل وقريبا منه طرح مشعل الرشيد رؤية إضافية في واقع مسرح الطفل من خلال ورقته «الموضوع والنموذج في مسرح الطفل في السعودية» متتبعا واقع نص هذا المسرح ونشأته واستلهامه التراث والأسطورة وحياة الغابة ثم دوره كاستجابة لتوسع المدينة والمتغيرات الاجتماعية الحديثة، وكان مهما أن يتوقف عند الاختلاف الدرامي بين مسرحي الطفل والكبار وعدم تجاوز بعض الاشتراطات الضرورية في بناء النص «المعرفة بأدب الطفل بشكل يفيد في دخول عوالمه، والنظرة التقديرية لعمر الطفل، واحترام فهمه وعقليته، بجانب التبسيط الدرامي وتعاون الكتاب المسرحيين والعمل على تجسيد النصوص المميزة». تخيل المكان والشخوص الجلسة الرابعة والأخيرة لملتقى النص بحثت في «إشكالات النص المسرحي في السعودية»، ولعلها حملت كثيرا من التعقيد في تناول وطرح مجريات النص المسرحي، دون أن تخلو من الإثارة الموضوعية على سياق ورقة حليمة مظفر «لحظة التآمر على النص المسرحي» التي أعلنت فيها موقفها الإبداعي من النص المسرحي برؤية تؤكد تمتعه بخصوصية أدبية ينفرد بها عن سائر الأنواع الأدبية وهي كونه «كتب ليمثل»، واقتربت مظفر أكثر من تشخيص حالة النص وحدوده الإبداعية بطواف شامل على بعض إشكالات المسرح السعودي كتوظيف المرأة والتراث والأسطورة وإشكالية البناء الدرامي. وكان التشريح المهني لمعطيات المسرح ضروريا لتحديد الأطر الزمانية والظرفية والمكانية بدرجة نقاء تسمح برؤية سهلة لمكنونات ومقومات المسرح ودوره المعرفي والثقافي، ولذلك حددت مظفر بعض الاختلافات بين قارئ الأدب المسرحي جمهور المسرح «تختلف بينهم درجة التخيل للمكان والشخوص والأحداث وذلك بفعل المسافة بين فعلي القراءة والمشاهدة». ولم تغادر مظفر المشهد قبل أن تسأل وتتساءل: «هل يمكن أن تأتي لحظة يتآمر فيها الكاتب السعودي على نصه المسرحي فيحوله إلى نص يعيش حالة من الارتباك والقلق»؟ لتجيب «إنها اللحظة التي ينسى فيها الكاتب منصة المسرح التي يكتب نصه لأجلها فلا يرتبط بحيزها الزماني ولا المكاني ويتجاهل سماع أصوات جمهوره في تفاعله معها.. هذه اللحظة فقط هي لحظة تآمر على نص يخشى فيها من تحوله إلى عاجز عن الحياة على أرض الواقع». تغييب المرأة إشكالية غياب المرأة عن المسرح تناولها محمد السحيمي في رؤيته «غياب المرأة في المسرح السعودي» وهو تعقيد نسبي محفوف ببعض أشكال التابو والقدرات الفنية ما يدفع لإجابات نسبية أيضا «حين نمثل المملكة خارجيا ونسأل عن عدم وجود المرأة لدينا في المسرح فإن أذكى إجابة هي: المسرح كله غير موجود لدينا، إذا أوجدناه فستوجد كل عناصره». وليس غياب المرأة عيب المسرح وإنما من يكتبونه أيضا «الكتاب المسرحيون ارتكبوا خطأ تاريخيا حين كتبوا نصوصا ذكورية تخلو من الشخصية المؤنثة وذلك على مدى عقود من عمر المسرح السعودي»، ومارس السحيمي اعترافية حارقة حين يكرر «نحن من غيب المرأة» .