لم يكن مقبولا البتة من حزب الله وأمينه أن يُسوغ قتل الشعب السوري، وإهدار دمه، وانتهاك أرضه؛ محتجاً بالمقاومة، وإعانة النظام لها، فهو في تعليله هذا يهجو الشعب السوري، ويذمه، وينتقص من قدره؛ إذ ربط بين النظام والمقاومة قبل سنة تقريباً، وفي شهر رمضان، كتبتُ مقالا عن الخطاب الطائفي والتخوف من أثره في توجيه الثورة السورية!، وكنت حينها واثقا من شرائح الثوار السوريين؛ فالأسباب الداعية للثورة لا علاقة لها بالدين، ولا ارتباط لها بالمذهب، فالناس في سورية تجمعهم هموم المطالبة بالحرية، والانعتاق من الظلم، فذاك هو القاسم المشترك بينهم، وتلك هي الرابطة بين تلك الجماهير؛ ومتى كان التركيز على المشترك، والاهتمام به، والانضواء تحت رايته، قاد ذلك إلى توحيد الصف، ووحدة الكلمة، واستطاع الناس تحقيق ما يصبون إليه، ويرمون تحصيله، ومتى تكاثرت فيهم الخلافات، وتنوعت فيهم الدواعي، وتنازعوا حول أولوية كل جماعة، أضاعوا الطريق إلى هدفهم، وأنسؤوا نيل مرادهم، وأطالوا عمر من قاموا لرفع ظلمه، وخضد شوكته، وهيّأوا بذلك السبيل إلى نصرته، وفتحوا الأبواب لمن ينصره، ويُعينه عليهم. تلك هي الفكرة التي كنت أريد إيصالها قبل سنة تقريبا حين شاهدت الخطاب الدائر بين الناس في تفسير الأحداث، والكلام عنها، قائما في المقام الأول على المسألة الطائفية. لقد كان كثير من الناس يظن أنّ التركيز على هذا السبب، والحديث عنه، يساعد في تعجيل الحسم، وتقليل الخسائر؛ لكن الذي جرى، وأثبتته في ظني الأيام، أن ذلكم الخطاب ساعد في تعقيد المشكلة، وتأجيل النهاية، وتكثير الخسائر. لقد كان لذلكم الخطاب الطائفي أثر مباشر في تعقيد القضية السورية، ودفْع الآخرين للتدخل في هذه الثورة، فنجم عنه تعدد الجبهات الثائرة، وتنوع الجماعات الخارجة على النظام، ولم يكن تعدد الجبهات، وإن فرح به كثير من الناس، ورأوا في كثرته حسما للصراع مع النظام، إلا خروجاً عن القاسم المشترك، الذي كان هو الضمانة في تحقيق الثورة أهم أهدافها، وأول مقاصدها، وهكذا تفرقت الثورة، وتنازع في الأهداف الثوار، ووجدنا كثيرا منا يُشارك العالم في تخوّفه من بعض كتائب الثورة، ويعدها نُدبة في جبينها، فدبّ الخلاف بين الثوار أولا، ثم بين من كانوا ينصرونهم، ويطالبون بعونهم، وما كان مثل هذا ليحدث للثورة السورية؛ لو لزم الثوار ما قاموا له، وترك البُعداء عنها التفسير الطائفي لها، والحديث عنها بذلكم اللسان. لقد جنت فكرة طوفنة الثورة على الثوار السوريين، وخدمت النظام؛ جنت عليهم حين مكّنت من تدخل الآخرين، فتعدّدت الجبهات، وضاع الهدف المشترك، واختلفت الأولويات؛ فإسقاط نظام ليس كإسقاط طائفة في أعين الناس والعالم. وخدمت النظام حين أظهرته بمظهر من يُحارب من أجل طائفته، لا ظلمه وغطرسته، ودفعت الآخرين، الموافقين له في المذهب، إلى نصرته، والقيام في الحرب معه. لقد انتفع النظام من الخطاب، المفسّر للصراع بالمنطق الطائفي، الذي كان رائجا منذ ابتدأت الثورة، ولم تُفد صيحات كثير من الإخوة الكتّاب في البعد عن ذلكم التفكير، وتلك الطريقة في التفسير، وظهر للناظر، بعد أن فات الأوان، صدق أولئك الكتاب، وسلامة رأيهم؛ فما انتفعت الثورة بإبراز النظرة الطائفية، ولا تضرر النظام من تصويرها بذلك. والمنطق الطائفي، وتفسير الأحداث به، هو الذي دفع حزب الله للتدخل في سورية؛ وإن كان حسن نصر الله يسعى جاهدا في خطابه، الذي ألقاه أمام جماهيره الغفيرة، أن يبدو بعيدا عن الثقافة التي تُحرّك غيره، وتقوده في الصراع معه؛ إذ بدا لمن يسمع خطابه أنه بعيد عن الطائفية، ناءٍ عنها، وما كان له - في ظني - أن يقول غير ذلك! لأنه يسعى جاهدا أن يُصوّر نفسه، ويصوّر حزبه بالحياد والموضوعية، وهو عندي بعيد عنهما؛ لكنه أدرك ما لم يدرك غيره من إخوانه السنة، لقد وعى حسن نصر الله أن حديثه بالمنطق الطائفي في قنوات التلفزة، وأمام جمهور المشاهدين من الأمة الإسلامية، سيثير عليه كثيرا من المسلمين، ويُضيّع عليه فرصة الحياد والتردد في جمع غير قليل من المشاهدين، وما كان لمثل حسن نصر الله أن يغفل عن هذه النقطة، وتغيب عن باله، ولهذا جاء خطابه مُخادعا لمن يسمعه، ومضللا له! لقد كان هدفه واضحا بين عينيه، لا لبس فيه، ولا غموض، لقد كان هدفه أن ينأى بالصراع مع الثوار السوريين عن الطائفية، والمنطق الطائفي؛ فحديثه بهما لن يجلب عليه سوى البغض والكره، وشحن النفوس؛ فتندفع ضده، وضد حزبه، فتكون أرض سورية رحى لتصفية الحسابات معه! يكشف لك هذا الخداع أن تسمع حججه في تسويغ تدخله، وانضوائه تحت راية جيش نظامٍ، يُحارب الشعب، ويقتل أبناءه؛ لمطالبته بحقه في الحرية، ورفع الظلم عنه. لقد كان له في ذلك حجتان؛ فأولهما أن سورية هي - كما يقول حسن نصر الله - ظهر المقاومة، وسند المقاومين، وثانيهما أنّ الثوار هم القاعدة والتكفيريون، الذين رفعوا لواء مقاتلة إخواننا الشيعة في لبنان، ومحاربة حزب الله بعد أن تنتهي معركتهم مع النظام في سورية، هكذا كان يتكلم حسن نصر الله أمام جمع كبير من أنصاره، والمؤيدين له، فالثوار أعداؤه من جهتين؛ الأولى أنهم سيكونون سببا في حرمانه، وحرمان حزبه، من القيام بدوره الكبير في المقاومة، والثانية أنهم يسعون للتربص به، وبحزبه، متى ما وضعت الحرب في سورية أوزارها، وأوقفت عجلة الخراب مسيرها. ففي حجته الأولى يطلب حسن نصر الله من الشعب السوري، الثائر على الظلم، والناهض في وجهه، أن يدفع ضريبة لا تلزمه، وثمناً لا يحق لحسن نصر الله أن ينتفع منه، ولا أن يفرضه عليه!؛ فحق المقاومة حق للشعب السوري، فهو الذي يحدد الثمن، ويختار من يدفعه له؛ ليقوم عنه بهذا الهدف الذي يدعي حزب الله أنه الوحيد، القادر عليه، والمستعد للنهوض بأعبائه! لم يكن مقبولا البتة من حزب الله وأمينه أن يُسوغ قتل الشعب السوري، وإهدار دمه، وانتهاك أرضه؛ محتجاً بالمقاومة، وإعانة النظام لها، فهو في تعليله هذا يهجو الشعب السوري، ويذمه، وينتقص من قدره؛ إذ ربط بين النظام والمقاومة، فصارت رهنا بالنظام، الذي يُحاربه الشعب، ويسعى لخلعه، ووقْفا عليه، فما أن يسقط النظام، وتتداعى أركانه؛ حتى يدع الشعب هذه القيمة، فيبوء حزب الله بالفشل في تحقيق أهداف مقاومته، وتحقيق مساعيه في مدافعة إسرائيل. إذن ثمة أمران؛ هما ارتباط النظام بالمقاومة، وارتباط حزب الله بها، وإذا كانت دعوى الحزب لها مقبولة؛ فلماذا يُرغم الشعب السوري على دفع ثمنها؟ لماذا يحمّل الحزبُ وأمينُه السوريين دفع هذه الضريبة، ويرغمهم على اقتطاع ثمنها من جلودهم، وعرق جباههم! أيقبل حزب الله أن يضع نفسه موضع السوريين؛ فيكون قراره بيد غيره، واختياره مرهوناً بمن يعيش في غير بلده، وهو الذي يُناهض دولته، ويخرج على نظامها، ويعبث بأمنها؟! أظن حسن نصر الله لو تأمل مآل حديثه، وقلّب قوله، لما تكلم بمثل هذا؛ لأنه وضع الشعب السوري موضعا، لا يرضاه لنفسه، ولا يختاره لحزبه؛ والمؤمن - كما علمنا جميعا - يُحب لغيره ما يُحب لنفسه. والخداع في حجته الثانية أشد، والتضليل فيها أكثر، فقد جعل الشعب الثائر معظمه، والخارج في وجه النظام أكثره، مجموعة من القاعدة، وأمشاجا من التكفيريين، وما لهذا من معنى سوى أن حسن نصر الله يتعامى عن كون الثورة في سورية شعبية، وذات نطاق واسع، تدل عليه كثرة الدمار، واتساع رقعة الخراب. وليستبين للقارئ الصواب فعليه فقط أن يُقارن بين الوضع في أفغانستان والوضع في سورية؛ ليدرك بعد هذه المقارنة الفرق الكبير بين البلد الذي تعمل فيه القاعدة، وتسعى في تخريبه، والانتفاض على حكومته وشعبه، وبين البلد الذي قام معظم أهله، وانتفض أكثرهم، فقد تدمّر في سورية خلال سنتين، ما لم يتدمر في أفغانستان خلال أضعاف هذه المدة، وما كان لمثل هذا أن يجري لو كان الثوار في سورية هم مجموعات، تدين بالولاء للقاعدة، وتؤمن بمنهجها؛ لكن حسن نصر الله يُريدنا أن نقبل دعواه، ونغفل عن مقارنة الحالة السورية بغيرها من الحالات (كأفغانستان واليمن) تلك الحالات التي تعيش على جنباتها القاعدة وجنودها؛ لكنها لم تستطع، حيث كان الشعب يرفض أسلوبها، ويمتهن طريقتها، ويمجّ تعديها، أن تحدث عشر معشار ما جرى في سورية حيث يقف معظم الشعب مندداً بهذا النظام، ورافضا له؛ ما جعل النظام يهجم بكل ما أوتي من قوة، حين ندر من ينصره من شعبه، فأهلك الحرث والنسل، وأباد البلاد والعباد، ولو كانت الأمور كما يقول حسن نصرالله في خطابه لكان للنظام من شعبه عون، يردعه أن يهدم سورية، ويُخرّب عاصمتها! إن من غرائب الأمور في قضية القاعدة والتكفيريين أن العالم بأسره يُحاربهم، ويسعى في استئصال شوكتهم، يجري ذلك الآن، على مشهد من الجميع، في أفغانستان وباكستان واليمن؛ فحربهم مشترك دولي، يجمع دول العالم، ويوحّد صفها، فما بال حزب الله يتخوّف من جماعات يُشاركه العالم في حربها، والقضاء عليها؟! وما باله قبل ذلك يخاف من جماعات سينتهي بها الأمر غالبا؛ كما انتهى في دول الثورات الأخرى، إلى فوضى عارمة، تستمر سنين، وتشغل السوري بأخيه، وتُنسيه الاهتمام بغير نفسه؟! وما يحسُن بحسن نصرالله أن يجيب عنه في هذا الصدد السؤال التالي: إذا كانت حال الثوار هي ما ذكرتم في خطابكم، وأبنتم في حديثكم، فقد كان من المنتظر أن تدخلوا في عون النظام، وتسعوا في نصرته من أول يوم قامت فيه الثورة؛ إذ الثوار - كما تزعمون - هم القاعدة والتكفيريون فحسب؛ فما الذي أجّل تدخلكم مع النظام، وأخّر نصرتكم له؟! لماذا بقيتم على الحياد حتى الأشهر الأخيرة، وتركتم النصرة حتى مضت تلك المدة، مع أن المناوئين للنظام هناك مجموعات من التكفيريين والقاعديين؟!