تصوير الحياة أشمل طبعاً من التصوير الاجتماعي، فالأخير يقتصر على البشر في طباعهم وعلاقاتهم، في زمالاتهم وصداقاتهم، ونحو ذلك مما يخص البشر ويمس حياتهم أفراداً وجماعات.. أما الحياة فهي أشمل من ذلك وأعمق، فالبشر جزء منها وتبقى الأرض والسماء، والطبيعة بكل تقلباتها والحيوان على مختلف فصائله، بل يشمل ذلك - تصوير الحياة - الأساطير والأشباح ومختلف الظواهر هو أشمل من التصوير الاجتماعي ينبع في أساسه من الواقع المشاهد، وإن كساه الشاعر بالصور الفنية، وأعطاه رسوماً مختلفة، لكنها في النهاية محاولة لتجسيد الواقع.. والإنسان اجتماعي بطبعه، لأن الناس هم أحلى مافي الحياة، ولكنهم أيضاً هم أسوأ ما فيها.. هل في هذا تناقض؟! والجواب كلا، فكلمة الناس شاملة، وأل التعريف للجنس، أي تعم الجنس البشري، وفيهم فضلاء أوفياء هم أحلى ما في الاجتماع، كما ان فيهم ظرفاء يبثون البهجة في الجو وبين الجلساء، وهؤلاء زينة الاجتماع. لكن وبالمقابل يوجد بعض الناس اللؤماء والخبثاء والذين شيمتهم الغدر، وأخلاقهم سيئة، ونياتهم فاسدة، فهؤلاء أسوأ ما في الحياة، كما يوجد سفهاء وسخفاء وحمقى يثيرون الأعصاب والعواصف، ويطيرون عقل الحليم، ويفسدون المجالس بالسفاهة أو الحماقة أو السخافة والتفاهة.. والسفيه هو الذي يطلق الكلام على عواهنه، ويهاجم الآخرين بلا سبب، ويهوى السباب، ولا يوجد على لسانه قفل يمنع اطلاق أسوأ الكلمات، فالسفيه - إذن - أسوأ بكثير من السخيف والتافه، لأن التافه هو الذي يتحدث بكلام لا طعم له، ولا فائدة منه، ويتطرق لصغائر الأمور، وكلامه لا ينفع وقد لا يفتر غير أنه يصيب الجليس بالملل والاحساس بأنه ينزل درجات بمجالسة هذا النوع ومحادثته.. والتافه قريب من السخيف وان كان أسهل منه، لأنه يتحدث في القشور، ولا يعي الأمور ولا همة لديه ولا طموح، ولا يعرف أحاديث الرجال، أما السخيف فيهبط عن التافه درجات بانحداره في الحديث إلى مواضيع مبتذلة، وقد يشطح في آرائه ويصدر أحكاماً جازمة خاطئة.. وبما ان المجتمع البشري يموج بكل الأجناس، فمن الطبيعي ان يوجد فيه العاقل والأحمق، الظريف والثقيل، المحبوب والمكروه، ومن البلاد ان تكون بعض الأصناف السيئة من الناس من البشر ملازمة للعقلاء والمهذبين اجباراً بحكم العمل أو القرابة أو الجوار أو الزواج أيضاً، بل حتى في العداوة قد يبتلى الله الرجل العاقل الرزين، صاحب الخلق والدين، بعداوة رجل شرير ليئم ليس لديه ما يخسره، وهذا من صوره علي بن الجهم بقوله: بلاء ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي خلق ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه ويرتع منك في عرض مصون وقد عبر الشعراء عن خوالج أنفسهم وخواطر بدائهم أثناء اختطالهم بالناس، في تصوير اجتماعي يميز بين العاقل والأحمق، والكريم واللئيم، كما قال الشاعر القديم: إذا رضيت علي كرام قومي فلا زال غضباناً علي لئامها وقد يصدق الشعراء في تصوير الآخرين، ناطقين بالحقد، وقد يميلون مع الهوى والغرض، فيمحدون من لا يستحق ويبالغون لهدف مادي، ويهجون من لا يستحق الهجاء ارضاءً لقبيلتهم أو لمجرد الانتقام، وقد جمع المتنبي ذلك بشكل متناقض غريب، حين مدح كافور وبلغ به الثريا، ثم هجاه أمر الهجاء ومرغه في الثرى، ودلالة هذا أنه ليس ما يقوله الشعراء من مديح أو هجاء هو امر صحيح. ومن التصوير الاجتماعي الشامل قول سليمان بن شريم: الناس كل له جواد وعشيره وكل معه طبع من الجد ماجود ولا كل من تهوى تحطه ذخيره ولا كل يوم به طرابات وسعود ولعبدالله بن صقية التميمي (وفيه صور بلاغية ممتازة): عسى شجرة ما تظلل عروقها سيوف البروق التي تقص أفنادها إلى صار مافيها لقاصدها ذرى يازين عن درب العباد ابعادها وللخلاوي راشد: ومن عود الصبيان أكل ببيته عادوه في عسر الليالي الشدايد ومن عود الصبيان ضرب بالقنا نخوه يوم الكون: يابا العوايد! ومن تابع المشراق والكِنّ والذرى يموت ماحشت يديه الفوايد وقولوا لبيت الفقر لا يأمن الغنى وبيت الغنى لا يأمن الفقر عايد ولا يأمن المضهود قوم تعزه ولا يأمن الجمع العزيز الضهايد وواد جرى لابد يجري من الحيا اما جرى عامه جرى عام عايد ومن لا يسقي كنة الصيف زرعه فهو مفلس منها نهار الحصايد ولشالح بن هدلان: ياقاطع الحسنى ترى العلم شاره لابد دورات الليالي يدورن من حل دار الناس حلوا دياره لابد ما تسكن دياره ويغبن ومن شق ستر الناس شقوا استاره ومن ضحك بالثرمان يضحك بلا سن!