المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها له شأن وللناس شأن وليس للمرء دار يعمل فيها سوى هذه الدار (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (الملك: 2). لذا فالحياة قصيرة ليس للمرء فيها بقاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)، رواه البخاري. فالعاقل يدرك تماماً أن دار الفناء ليست له دار قرار فتراه دوماً على ستعداد للآخرة لعلمه أنها للبقاء والدوام. والله جل في علاه خلق الموت والحياة للابتلاء، فجبلت الدنيا على الأخطار والأكدار هذا مبتلى بالأمراض وآخر بالهموم والأحزان، وذاك بنقص الأنفس، وأولئك بالأموال ناهيك عن الخوف والجوع وبقية صروف الزمان، والمحن لا تعرف زماناً ولا مكاناً ولا جنساً ولا سناً (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). لكن المسلم عزيز عظيم لا ينكسر أمام البلايا، والقوة عند البلاء، والثبات على الدين في زمن المحن مسلك الأنبياء عليهم الصلاة السلام ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد» رواه النسائي. وليس ثمة إلا الصبر فهو من أقوى الأسلحة المعينة على نوائب الحق لذا بدأ به بقوله: «واستعينوا بالصبر والصلاة». البقرة 45. ولا ينبغي للعبد التعلق بما سوى الله، لأن تعلقه بما سوى الله مضرة عليه. من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه وربما صار سبباً لعذابه فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد لأنه إن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة كخوف الفراق وتوقع التغير، وهذا معلوم بالاعتبار والاستقراء، وفي أخبار العشاق من ذلك عبرة: أحب ليالي الهجر لا فرحا بها عسى الله يأتي بعدها بوصال وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصل معقبا بزوال وقال الآخر: فما في الناس أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياً في كل حين مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراق تألم أبو الوفاء، علي بن عقيل لوفاة ابنه إلا أنه تصبر وسلم لأمر الله واستسلم لقضائه وكان يقول: لولا أن القلوب تؤمن باجتماع ثان لتفطرت المرائر لفراق المحبين. نعم المؤمن يوقن برحمة الله وبقوله تعالى: «والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم...» الطور: 21. فالمؤمن العظيم ولو تألم فإنه يتألم وينظر في المصيبة نظر اعتبار ويأخذ منها الدروس، لا أن تمر عليه المصائب والمحاذير وهو عنها من الغافلين. والإيمان شرط أساس للهداية قال الله تعالى: «ومن يؤمن بالله يهد قلبه» يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير، وقيل: هو الاسترجاع عند المصيبة، وقيل يهدي قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال آخرون: «إن ابتلي صبر وإن أعطى شكر وإن ظُلم غفر». ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع قال علي للأشعث بن قيس: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور. وإني وإن أظهرت في جلادة وصانعت أعدائي عليه لموجع ملكت دموع العين حتى رددتها إلى ناظري وأعين القلب تدمع هذه الأبيات للخزيمي قالها قبل البيت السابق. وعزى رجل رجلاً عن ابنه فقال: أكان يغيب عنك؟ قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً عنك، فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه. جرير يرثي امرأته: لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار ومن أحسن القول في هذا المعنى قول علي بن الحسين حيث مات ابنه فلم ير منه جزع فسئل عن ذلك فقال: أمرٌ كنا نتوقعه فلما وقع لم ننكره. قال رجل من الحكماء: إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر فإذا وقع فالرضا والتسليم ومن هذا قول عمر بن عبدالعزيز: إذا استأثر الله بشيء فَالهَ عنه. يقال: لهيت عن الأمر ألهى إذا أضربت عنه، ولهوت ألهو من اللعب. قال عمر بن الخطاب: لو كان الصبر والشكر بعيرين، ما باليت أيهما ركبت. فالحمد لله على ما قضى وقدر، والله سبحانه المسؤول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العمل الصالح والقول الجميل فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل. ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك وجدان الذي أنت واجد وعند الممات يحمد القوم التقى وفي الصباح يحمد القوم السرى. اللهم أغفر لوالدي الشيخ سليمان بن راشد الطيار وأعلي منزلته وأفسح له في قبره وموتى المسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد. * خطيب جامع إبراهيم الذياب بحي الفيحاء - بالرياض