هنالك عبارة للدكتور غازي القصيبي رحمه الله أعتقد أنها جاءت في إحدى محاضراته.. يقول ليس بالنص لأنني أعتمد على ذاكرتي: "أليس من العجيب أن العصر الذي نباهي به بحضارتنا الإسلامية بين الحضارات أنه العصر الذي تجاور فيه أبو العتاهية وأبو نواس دون أن يسفك أي منهما دم الآخر؟". تذكرتُ هذا التساؤل وأنا أستعيد قراءة الهويات القاتلة لأمين معلوف للمرة الثانية، وبالتحديد حينما تساءل: لماذا استطاع الغرب المسيحي الذي عرف تاريخا طويلا من التشدد، وعجز دائما عن التعايش مع الآخر أن يُولد مجتمعات تحترم حرية التعبير.. في حين أن العالم الإسلامي الذي طالما مارس التسامح، يبدو اليوم معقلا للتطرف الديني؟ ولأنني لست بصدد البحث في إجابة مثل هذه التساؤلات الكبيرة، والتي أعتقد أن معلوف كان منصفا في كتابه في قراءتها بقدر كبير من الحياد.. خاصة حينما يحفظ للحضارة الإسلامية حقها التاريخي في سجلها الناصع في التسامح، في سياق بحثه في تفكيك مفردات الهوية من خلال التكابر على العالم الإسلامي وقضاياه من قبل الغرب، لهذا سأكتفي بملمح آخر قد يفضي إلى بيان إسهام العنصر الذاتي في تدمير الهوية من داخلها، وهو ملمح صغير لكنه معبر. تجلى عبر تدافع الأحداث بعد الثورات واتساع مساحة التعبير، وربما يبدو هذا الملمح ساذجا للوهلة الأولى، رغم أنه سبق وأن طرح كثيرا إلا أنه طرح بصيغة تشبه التساؤل الذي يلزم أن تعقبه حفنة من علامات التعجب، دون أن يتم تناوله كسبب ذاتي، ليبقى معلقا على الدوام على ظهر المؤامرة أو في أحسن الأحوال مربوطا بوتد العنصرية، ما جعله خارج أقواس البحث مثل مارد يصعب اقتفاء أثره. فالتسامح لا يُطلب من الضعيف وإنما يُطلب من القوي، ولا يُطلب من المهزوم وإنما من المنتصر، لذلك قبلت حضارات الفتح الإسلامي أشد عناصر الاختلاف تنوعا تحت لوائها، ولم تلتفت إلى تلك الفروقات على أنها مجرد صغائر، لكن حينما بدأ الوهن والتمزق في البنية الحضارية ولم يعد لها أي منجز يُمكن مشاهدته، أصبح من الطبيعي أن يفتش كل طرف عن وعاء يغتسل به من أوضار الخطيئة، لينظف بمائه آثار تهمة الهزيمة، وهذا يستدعي أول ما يستدعي الزعم باحتكار الحقيقة، عبر البحث عن مثالب الآخر وحتى تكفيره إن أمكن، وهو ما أدى إلى تدمير الهوية ببناء المزيد من الصوامع الفكرية التي لا عمل لها سوى نفي الآخر القريب قبل الغريب وإقصائه تحت غطاء من البارانويا أو النرجسية أو بهما معا. والمشهد الذي أفرزته الثورة في مصر بعد وصول الإخوان كمثال حي بمعطياته الحادة التي اختلط فيها كل ما هو ديني بكل ما هو سياسي قد يؤسس لقراءة واقعية بشكل أفضل لمعنى تدمير الهوية من الداخل الإسلامي. في ظل اختلاط المفاهيم، والرغبة في تحقيق الغايات والمطامح تحت عنوان يتكىء على الدين، لكنه يستخدم نفس أدوات اللعبة السياسية بكل ميكافلليتها. مما يزيد من تعدد ألوان الهوية، لتصبح كالمرآة المهشمة التي يستطيع أن يجد كل واحد فيها صورته من الزاوية التي يقف فيها.