ليس سراً أن نقول إن السينما الأمريكية هي المهيمنة الآن على سوق الأفلام في السعودية، لكن ورغم هذه السيطرة يبدو المشاهد السعودي تواقاً لرؤية أشكال جديدة ومختلفة من السينما، فهو مثلاً يسمع ويتابع أخبار السينما الإيرانية، ولديه رغبة في مشاهدة الأفلام الإيطالية الشهيرة، وذات الرغبة تراوده مع سينما شرق آسيا القادمة من اليابان والصين التي يراها منافساً جميلاً وفاتناً بدأ يفرض وجوده في الفترة الأخيرة، وأيضاً هو يملك تصوراً عن سينما أمريكا الجنوبية ويود فعلاً لو تعرف إليها عن قرب.. ولذلك هو يبحث عنها هنا وهناك في مواقع الإنترنت وفي زوايا بيع الأفلام في الدول الأخرى حين يسافر إليها.. إلا أن ما لا يعلمه المشاهد السعودي، أو بالأحرى ما لا يتوقعه، هو أن يحتوي سوق الأفلام السعودي على بعضٍ من التحف السينمائية الأجنبية -غير الأمريكية- التي يجدر بالسينمائي الحريص أن يشاهدها.. لذا ومن باب لفت نظر القارئ العزيز إلى هذه التحف وضعنا هذا التقرير الذي نرصد فيه أهمها.. أو ما تمكنا من إحصائه.. مع التشديد على نقطة : أن وجود مثل هذا التنوع هو أمر يحمد للسوق السعودي، لكنه لا يكفي، ولا يشفي غليل الزبون، وعليه فإن المطالبة تتوجه إلى شركات توزيع الأفلام في السعودية أن تولي هذه الأفلام قدراً من الاهتمام يوازي ذلك الذي توليه للمنتج الأمريكي، وذلك من أجل تحقيق التوازن، والأهم من أجل تلبية شغف المشاهد السعودي، شغفه الأصيل بالمعرفة وبرؤية العالم، كل العالم، من خلال كاميرات السينمائيين البارعين.. وكي لا نطيل في المقدمة، دعنا الآن نتوجه إلى أهم الأفلام الأجنبية المتوفرة في سوق الأفلام السعودي.. الفيلم الصيني (الطريق الى الديار - The Road Home) لن نبالغ إن قلنا ان هذا الفيلم هو الأكثر رومانسية في السوق السعودي، إن لم يكن في عالم السينما ككل، ببساطته، بواقعيته الشديدة، وبموسيقاه البديعة التي استأثر الناي الحزين بمساحة واسعة فيها.. إن الفيلم مختلف في أسلوبه، يحكي ببساطة قصة فتاة صينية تعيش في قرية نائية يبعث إليها من المدينة بمدرس جديد ليعلّم أبناء القرية الصغار وليمسح الأمية عن الكبار.. هي تنتظر قدومه، وحين جاء، تشغف به من النظرة الأولى، وتهيم به عشقاً إلى حد الاستلاب، فتجد نفسها مدفوعة نحو افتعال الأحداث من أجل لفت نظره إليها، ومن أجل إظهار اهتمامها به.. وهكذا نبدأ نحن رحلة ساحرة، حيث النظرات المتأملة الفاحصة، والمواقف البسيطة جداً التي قد نفعلها أنا وأنت !، تلك المواقف -التي رغم بساطتها- تشرح الاهتمام والرغبة والحب.. إن أجمل ما في الفيلم هو إظهاره «الحب» بمعناه العذري الخالد، حيث خلا تماماً من كل ما هو خادش ومن كل ما هو جسدي حتى أنه خلا من الكلمات!، وشدد على مسألة «البذل» فمعنى أن تحب هو أن «تبذل» أن «تهتم» أن «تضحي».. وما أكثر ما ضحت هذه الفتاة !.. مخرج الفيلم هو المبدع الصيني (زانغ إيمو) -احفظ هذا الاسم جيداً- الذي اشتهر بعنايته بالصورة والألوان في أفلامه، وفي هذا الفيلم تظهر الصورة أنيقة إلى حد البذخ، ويظهر استخدامه البارع للألوان وتوظيفه الذكي لها، فهو هنا قد بدأ الفيلم بالأبيض والأسود الذي يعني الزمن الحاضر، ولما عاد إلى الماضي ليحكي قصة الحب جاءت الألوان الزاهية البراقة لتملأ الشاشة ولتملأ نفوسنا قبل ذلك بالبهجة والإشراق ثقة وإيماناً بهذا الحب الطاهر العفيف.. وكأنما عودة الألوان دلالة على أن الدنيا بلا حب هي باهتة لا طعم لها ولا نكهة.. الفيلم ظهر عام 1999 وحاز الجوائز العديدة في مهرجانات كبيرة كمهرجان برلين الدولي ومهرجان سندانس للأفلام المستقلة.. الفيلم الصيني (أوقات ممتعة - Happy Times) فيلم آخر لمبدعنا الصيني (زانغ إيمو)، وفيه يواصل السباحة مع الطهر والبراءة، لكن هذه المرة مع فتاة يتيمة الأم عمياء، يكاد يقتلها الشوق للقيا أبيها الذي غاب منذ سنوات هارباً وتاركاً إياها لدى زوجته الثانية، البدينة، التي تذيق طفلتنا الصغيرة عذاباً لا يطاق، يفوق عذاباتها السابقة.. لكن الفتاة تحتمل كل ذلك لسبب بسيط هو أنها لا تزال تتعلق بأمل صغير مفاده أن أباها سيأتي حتماً لينتشلها مما هي فيه من بؤس وشقاء.. يستحيل أن ينساها أبوها، إنه سيعود.. سيعود حتماً من أجلها.. وهكذا تعيش في وهمها بشكل بائس يدعو إلى الرثاء والإشفاق.. وبينما هي كذلك، يأتي رجلٌ ليخطب زوجة أبيها، وهو لا يقل عنها طهراً ونقاءً، فتوافق عليه الزوجة، وما هي إلا أيام حتى تطرده من منزلها هو والفتاة الصغيرة، لتبدأ من هنا حكايتهما معاً، ولتبدأ أوقاتهما الممتعة، هي اليتيمة المسكينة، وهو العجوز الفقير الذي أصبح لها بمثابة الأب.. ذلك الأب المفقود الذي رغم كل شيء لا تزال متعلقة به.. الفيلم الإيطالي (الموت في البندقية - Death in Venice) رائعة المخرج الإيطالي «لوتشيانو فيسكونتي» المأخوذة عن رواية بنفس الاسم للأديب الألماني الكبير «توماس مان».. ورغم أن من قرأ الرواية شعر بكثير من الاختصار الذي يبدو مخلاً ! إلا أن «فيسكونتي» صنع تحفة بصرية أخذت من الرواية روحها وعبقها وبنت شكلاً جديداً مطبوعاً برؤى وأفكار «فيسكونتي» الخاصة.. الفيلم تأملي بالدرجة الأولى، يناقش فلسفة «الجمال» ونظرياته المختلفة وحول إذا ما كان ينبغي على الجمال أن يكون نقياً خالصاً وخالياً من المنفعة ومن الأغراض المادية، أم أن يكون مادياً وموجهاً وراضخاً لشروط ومتطلبات الجمهور العريض.. وهو يعرض قضيته هذه من خلال تأملات «موسيقار» توشك حياته على الانهيار بسبب تمسكه بقيم الجمال التي يؤمن بها ولا يساوم عليها.. فهو يؤمن بأن الجمال لابد أن يكون خالياً من أي غرض فهو «مقدس» بذاته وهو وسيلة وفي نفس الوقت غاية.. ولما لم يجد أي صدى لأفكاره هذه، خاصة بعد أن ألمح له أحد أصدقائه أن نظرته المتطرفة للجمال مستحيلة التحقيق وليس لها وجود على هذه البسيطة، بدأ يفقد ثقته بالحياة وبالناس وبالأرض التي لم تستطع أن توفر الحد الأدنى من قيمه الجمالية الخاصة، إلا أنه وحين أعلن كفره الصريح بهذا العالم، وجد ما أعاد إليه إيمانه من جديد، إذ وجد «تمثالاً» بشرياً ! جميلاً جسّد كل اشتراطاته الجمالية، وهو ما قاده لأن يفتن بهذا التمثال، افتتانا وصل إلى حد الهوس المطلق.. فيلم «الموت في البندقية» تحفة سينمائية نضحت بالجمال الفكري والبصري، كما برز فيها دور الموسيقى التي كانت ساحرة بشكل لا يوصف.. الفيلم الإيراني (قندهار - Kandahar) من إخراج الإيراني (محسن مخملباف).. يحكي الفيلم بالبساطة والواقعية التي عرفت عن السينما الإيرانية، قصة دكتورة أفغانية تقرر العودة إلى بلادها أفغانستان قادمة من بلاد المهجر كندا، وذلك من أجل إنقاذ أختها التي تعيش في قندهار والتي تقرر الانتحار عشية رأس سنة عام 2000م، الفيلم يتابع رحلة الدكتورة منذ أن تطأ الحدود الإيرانية الأفغانية وحتى وصولها إلى قندهار، وعبر هذه الرحلة المطبوعة بالألم والشقاء سنمتلك نحن كمشاهدين تصوراً عن حقيقة المعاناة التي عاشتها المرأة في عهد نظام طالبان.. الفيلم الفيتنامي (ثلاثة فصول - Three Seasons) إن المتابع لسينما شرق آسيا سيلحظ فيها العناية بالشكل والاهتمام الفائق بجمالية الصورة، وهنا في هذا الفيلم الفيتنامي الرائع نلحظ ذات الأمر، إذ طغت على الفيلم الصنعة الشكلية وباتت كل لقطة فيه بمثابة لوحة تشكيلية فاتنة حيث الزهور والألوان البراقة المتناثرة بهدوء على صفحة الشاشة.. أيضاً هناك ميزة أخرى، وهي العذوبة في السرد وفي انتقال الكاميرا والقطع بين المشاهد الذي يتم بطريقة ناعمة ساحرة.. الفيلم يحكي قصة جندي أمريكي -يؤدي دوره النجم «هارفي كيتيل»- يعود إلى فيتنام بعد سنوات طويلة ليبحث عن ابنة له يعتقد أنها ولدت بعد عودته إلى أمريكا بعد انتهاء الحرب الفيتنامية.. وأثناء رحلة البحث يبدأ في اجترار الماضي، وفوق ذلك هو يفتن مجدداً بإحدى الفتيات الفيتناميات.. (ثلاثة فصول) فيلم رومانسي رائع ينضح واقعية ويحوي كثيراً من الألم والكثير الكثير من الشعر والجمال. . الفيلم الألماني (الغواصة - Das Boot) رائعة المخرج الألماني (ولفغانغ بيترسون) الحائزة على ستة ترشيحات للأوسكار عام 1983 الفيلم يحكي قصة غواصة ألمانية تاهت في مياه قوات الحلفاء، يعيش طاقمها حالة من الترقب والطحن النفسي الرهيب والهلع من الموت الذي بات وشيكاً وبات وجهه الكريه يطل في كل لحظة ومع كل اهتزازة، حتى وهم في أعماق أعماق المحيط.. الفيلم الياباني (Brother) هل تذكر برنامج المسابقات الياباني (الحصن)؟ هل تذكر قائد المدافعين؟ إنه هو مخرج هذا الفيلم.. اسمه (تاكيشي كيتانو) وهو من أبرز السينمائيين اليابانيين، وهذا الفيلم هو فيلمه الوحيد المتوفر في السوق السعودي وهو أقلها مستوى رغم أنه جميل في النهاية.. هو يسبح في فلك العصابات وعالم الساموراي، إذ يؤدي كممثل دور رجل عصابات ياباني يهرب خوفاً من الثأر إلى أمريكا ليؤسس هناك عصابة خاصة به تنافس بقية العصابات الأمريكية.. الفيلم رغم فكرته المستهلكة -ربما- يتميز بأنه ذو أسلوب إخراجي رائع يتمثل في وفرة اللقطات الطويلة وفي الصمت الذي يستخدمه (تاكيشي) كثيراً كبديل للحوارات..