لا يوجد في هذا العالم الوسيع بلد يشبه فرنسا فهذا البلد الذي يعتبر صغيرا نسبيا في مساحته (اكثر من نصف مليون كلم مربع بقليل) وعدد سكانه قليل نسبيا حوالي 65 مليون شخص الا ان افعال فرنسا كبيرة. هو بلد يقود ولا يقاد! واصبح رمزا للاستقلالية في القرار مهما كان حجم القوة العظمى المسيطرة في العالم فهو البلد الذي لملم نفسه بعد الحرب العالمية الثانية وانشأ برنامجه النووي وكون ترسانته العسكرية النووية بمجهوده الذاتي دون مساعدة من احد -كما فعل الاخرون !-حتى اصبح ثالث قوة نووية في العالم كي لا يكون معتمدا على حلف الناتو ولكي يبقى قراره مستقلا وهذه احد اسس السياسة الديغولية. وكأن فرنسا تقول (مهما كنت صديقي وحليفي فذلك لا يعطيك الحق بتأثير على قراراتي!) وهذا ينطبق على كل شيء من القرارات الاستراتيجية الى القرارات التجارية! فرنسا عضو دائم في مجلس الامن الدولي وأحد الدول الصناعية السبع لكن لها مسارا فريدا في اتخاذ قراراتها وكمثال عندما ارادت الدول الاوروبية انتاج طائرة مقاتلة وكانت فرنسا من بينها حدث خلاف بين فرنسا والبقية بخصوص المواصفات فانسحبت فرنسا من المشروع واخذت المخاطرة وانتجت طائرتها بشكل مستقل (الرافال) بينما بريطانيا واسبانيا والمانيا وايطاليا كلها اشتركت في طائرة واحدة هي التايفون. ورغم ان فرنسا هي قلب اوروبا والمؤسس الاكبر مع المانيا للاتحاد الاوروبي الا ان فرنسا بقيت تملك هذا التميز في سياستها في الاوقات الصعبة وفي الظروف التي تحتاج قرارات شجاعة قالت لامريكا (لا) في حرب العراق 2003 واثبت التاريخ صحة قرارهم وفي حرب ليبيا كانت سباقة وحتى في مالي عندما رأت ان القاعدة ستستولي على البلد اخذت زمام المبادرة واحبطت خطة القاعدة في وقت اظهر الاتحاد الاوروبي ضعفه في الاوقات الحاسمة. اتذكر علاقتي بفرنسا والفرنسيين بدأت بشكل جدي عندما كنت صغيرا وقرأت اول رواية لفكتور هوجو واصبحت مدمنا لكل ما كتبه اعظم الكتاب في نظري وما زلت الى الان اعتبره كاتبي الاول ولو ان فرنسا لم تنجب الا فكتور هوجو كأديب لكفاها ذلك. واعترف انني بعدها قررت تعلم اللغة الفرنسية فقط لاقرأ روايات هوجو بلغته الاصلية ولم يخطر ببالي مطلقا انني في يوم ما سأتعلم في جامعة فرنسية! طبعا فرنسا لم تؤثر في العالم بأدبها فقط بل انها غيرت وجه العالم ككل فالنظام السياسي والديمقراطي والاجتماعي الغربي بل اغلب ما ترونه الان من قوانين وانظمة في اغلب دول العالم كله مبني على مبادئ الثورة الفرنسية واراء مفكريها. علاقات فرنسا بالعالم العربي طويلة ومعقدة وكتب فيها مجلدات وشهدت مدا وجزرا وحروبا وسلاما وتحسنا وسوءا! واذا دخلنا في هذه الدوامة فلن يكفينا عدة كتب لشرحها لكن دعونا نتكلم عن علاقة فرنسا بالعرب والخليج حاليا. الشخصية الفرنسية مختلفة عما تعودنا عليه كخليجيين من شخصيات كالامريكية والانجليزية لذلك نشعر انها متعجرفة وصعبة التواصل (وقد يكون البعض كذلك) بالاضافة الى عدم محبة الفرنسيين للتكلم بالانجليزية لكن الشخصية الفرنسية عندما تتعمق صداقتك بها فهي من اجمل الشخصيات خصوصا شخصيات بقية المدن الفرنسية غير باريس! ورغم ان باريس من اكثر المدن التي ترتاح لها نفسي ولدي كثير من الاصدقاء وعشت فيها كثيرا من الايام الجميلة الا انها تختلف عن بقية المدن الفرنسية لانها كبيرة وجامعة لمختلف الشخصيات والطباع لذلك قد افهم لماذا يشتكي البعض من عدم قدرتهم على تكوين علاقات وصداقات وخصوصا الزوار لفترات قصيرة لان الشخصية الباريسية تحتاج وقتا! حقيقة استغرب عندما ارى امكانيات فرنسا وامكانيات الخليج وارى ان التعاون الاستراتيجي بينهم لم يصل الى ما نتمناه! فهناك تطابق شبه تام في السياسة الخارجية وتشابه في الرؤى في الملفات الكبرى في المنطقة كسوريا وايران! بكل صراحة نريد ان نرى التبادل التجاري بين السعودية وفرنسا ان يرتفع الى ضعف ما هو عليه الان بفترة وجيزة ونريد ان نرى مشاريع اقتصادية مشتركة كبرى ونقل تكنولوجيا تفعل عمليا! يقول لي بعض الاصدقاء ان الجميع يمدح جودة وتكنولوجيا المنتجات الفرنسية لكنهم يشتكون دائما من خدمة ما بعد اللبيع والصيانة والتدريب! وهذا ملاحظ في كثير من المجالات. الشركات الفرنسية يجب ان تغير سياستها لشراكة طويلة الامد بدل عمل المشروع والمغادرة وربما بعض المماطلة في خدمات بعد البيع او الصيانة. ايضا التجارة البينية تحتاج الى مرونة من الجميع وليس التشدد بالشروط مما افقد الشركات الفرنسية كثيرا من المشاريع الهامة. هناك مجالات واعدة حاليا كالطاقة والمواصلات والتعليم والدفاع كلها تحتاج الى تغيير في طريقة المفاوض الفرنسي لعمل استراتيجية طويلة الامد. بينما يشتكي الفرنسيون لنا بقولهم (انتم تصيفون في فرنسا وتستثمرون في بريطانيا وامريكا) لكن ردنا بسيط: انظروا لتسهيلات الفيزا التي تستغرق يوما واحدا ومدتها 5 سنوات في بريطانيا! على الفرنسيين تسهيل الفيزا والسفر وسيرون التدفق الهائل لرجال الاعمال فوجود فيزا الشنغن الاوروبية ليس بعذر! ففرنسا دائما مستقلة بسياستها التي تخدم مصالحها الوطنية وتستطيع ايجاد حلول اذا رغبت!