المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    اليوم..بدء الفصل الدراسي الثاني    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    سعرها 48 مليون دولار.. امرأة تزين صدرها ب500 ماسة    «مَلَكية العلا»: منع المناورات والقيادة غير المنتظمة في الغطاء النباتي    منتخبنا فوق الجميع    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    ضبط أكثر من 20 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    المملكة تستعرض إنجازاتها لاستدامة وكفاءة الطاقة    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    ابنتي التي غيّبها الموت..    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عنف الاستبداد الدولي في النزع الأخير
نشر في البلاد يوم 05 - 09 - 2008

لا تتوقف عجلة التاريخ بين عامين، وإن اعتاد الإعلاميون خاصة الوقوفَ لاستعراض بعض معالم ما سجّله التاريخ في عام يرحل واستشراف ما يحمله عام آخر مازال في رحم المستقبل، ويعني هذا على أرض الواقع أن كثيرا مم ّا شهده عام فائت سيمضي في الاتجاه
ذاته وقد يضاف إليه جديد في عام قادم . وما بين استعراض ما مضى واستقراء ما يأتي يبقى العنصر الثابت متمثلا في عدم وجود ثوابت بمعنى الكلمة فيما يسمّى " الواقع القائم " ، فالواقع متغيّر باستمرار، بفعل من يساهم في تغييره، وعلى حساب من ينتظر ليتلاءم مع الجديد فيه، ومن هنا ترتبط السياسات الواقعية بالتعامل مع المتغيّرات، وتجنّب الانزلاق في قيود تبدو ثابتة للوهلة الأولى، رغم سيولة مجرى الأحداث نوعيا وزمنيا، وهو ما سيتم رصده في هذا السياق من خلال المحاور التالية :
نهاية عصر إمبراطوري قصير الأمد
انكسار عسكري في النزع الأخير
السقوط حضاريا
معركة العولمة
القلق يحكم العالم
القطب الغائب
- 1 نهاية عصر إمبراطوري قصير الأمد عالمنا اليوم أسرع تحرّكا بما لا يقارن مع ما عرفه تاريخ البشرية من قبل، فقد تحيط صفحات معدودة بما وقع في عصور سابقة على امتداد عقد أو عقدين من الزمن، ولا يحيط مثلها ببعض ما شهدته أيام معدودات من عام واحد في وقتنا الحاضر .
وعصرنا هذا أعقد تطوّرا - بأحداثه المتشابكة وتداخل تأثيرها بعضها على بعض - من أن تحصره شهادة الأقلام على عام راحل واستقراء غيب عام جديد، في نطاق ما قد تستدرج إليه اللحظة الآنية بصدد ما طرأ على إمبراطورية بعينها، وإن كان هذا ممكنا في الماضي البعيد، في عصر الإمبراطوريات القديمة .
ولعلّ أبرز أحداثٍ عالمية جرت وما ينتظر وقوعه يعكس حصيلة خطأ جسيم وقع فيه صانعو القرار الأمريكي عبر توهّم قابلية تطبيق التفكير الإمبراطوري وسلوك طريقه في عالمنا المعاصر، فاقتصر ما صنعوه على تكرار مشاهد همجية من عصور بائدة ولم ينجحوا
في صناعة صيغة جديدة قابلة للاستقرار فيما يشبه " نظاما عالميا " ، ولو إلى حين من الزمن، كي يوصف في كتب التاريخ - كما تمنّوا - بالعصر الإمبراطوري الأمريكي .
إنّ سقوط الإمبراطورية الأمريكية الموهومة بعد مسيرة طويلة لنشر الهيمنة، كان أسرع من رصد إقامة دعائمها الأولى عالميا بالقوّة العدوانية المباشرة، وبهذا المنظور يمكن وصف هذا العام بأنه عام انكسار عسكرة الهيمنة الأمريكية واستبدادها الدولي وعنفها
الإرهابي، وتوقع أن يكون عام 2008 م عام انحسارها لتنفرج الأوضاع العالمية تدريجيا عن صيغة جديدة للتعامل الدولي، بين القوى التي تجهّز نفسها لذلك وتسعى إليه .
- 2 انكسار عسكري في النزع الأخير
لقد كانت أحداث عام 2008 م حلقة لا تنفصل عن مجرى الأحداث في عدة أعوام سبقت، ولن تكون أحداث عام 2009 م إلاّ حلقة تالية، وما ينبغي استخلاصه في نظرة موجزة بين هذين العامين، يقتصر على نقاط الضعف واتساع رقعتها .
ولا يخفى أنّ العملاق الأمريكي الجريح بقي طوال قادرا على التحرّك، وسيستمرّ على ذلك في أعوام تالية، لاسيما ، ولكن لا يمكن المقارنة بين فاعلية تحرّكه عبر ذراعٍ حبشية في الصومال عام 2007 م مثلا بفاعلية تحرّكه عبر قوّته الذاتية الضاربة في أفغانستان
عام 2001 م أو في العراق عام 2003 م؟ ..ولا يخفى أنّ صوته الأقرب إلى الاستغاثة الآن بحلف شمال الأطلسي للتعويض عن عجزه عن بلوغ أهدافه فيما سمّاه الحرب على الإرهاب، يكاد يغيّب نهائيا صوته المتعجرف أيام أطلق تلك الحرب من عقالها؟ .
عندما تحدّثت المصادر الأمريكية عن خوض الساحة الرابعة من ساحات الحروب الأمريكية الحديثة، وقصدت بها الغزو الحبشي للصومال بذريعة الاستجابة لدعوات " أمراء الحرب " في الصومال بعد هزيمتهم رغم دعمهم أمريكيا، كان اتجاه التقهقر في تلك الحروب قد
بدا واضحا للأنظار، في العراق بعد أفغانستان، وأمام المقاومة في لبنان بعد المقاومة في غزة، وفي التعامل مع سوريا وإيران بعد احتلال العراق .
وبالمقابل كان من الطبيعي أن تأخذ أنباء سيطرة " مسلّحين بتوجّه إسلامي " على مدن تقع وسط الصومال أواخر عام 2007 م نفسه، مكانها " المبدئي " المعاكس لتقدّم القوات الحبشية الغازية وتقهقر المحاكم الإسلامية أمامها، والأرجح في عام جديد هو استمرار
هذا التطوّر الوليد .
وعندما تابعت المصادر الأمريكية حديثها عن استهداف إيران عسكريا بذريعة ملفها النووي، كان من المحتم أن تشهد نهاية العام نفسه صورة مقابلة أيضا، ظهرت في الإعلان عن تقرير المخابرات الأمريكية بشأن وقف مشروع تصنيع أسلحة نووية إيرانية، وما تلاه من مواقف " تمتدح " تطوّر الدور الإيراني في العراق بما يتلاقى مع الرغبات الأمريكية، ومن المؤكد استمرارية هذا التطوّر، على الأقلّ إلى ما بعد ظهور حصيلة تركيز الجهود العدوانية في عام 2008 م على المواقع السورية واللبنانية والفلسطينية والسودانية .
هنا تبرز مقابل صور التراجع الأمريكي صورةُ تعطيل سبل التوافق في لبنان، ومضاعفةِ التهديدات العسكرية وشبه العسكرية تجاه سوريا والسودان وزرع الألغام في طرق المصالحة، ووصول حصار شعب فلسطين الذي يحتضن قوى المقاومة الفلسطينية إلى أبشع
مظاهره الوحشية المتناقضة مع أبسط الحقوق الإنسانية، كما تطرحها آخر مشاهد العالقين من الحجاج وسواهم على أبواب أرضهم في قطاع غزة .
قبل عام واحد كان تحرّك العملاق الأمريكي الإمبراطوري الجريح أشبه بخطوتين إلى الأمام، مثل تعزيز القوات في العراق، وإطلاق حملة عسكرية جديدة في أفغانستان، وخطوة واحدة إلى الوراء، مثل تجنّب الدخول مباشرة في ساحة القتال في الصومال وتحريك دولة تابعة للقيام بمهمة حرب بالنيابة .
الصورة السائدة مع نهاية العام 2007 صورة معاكسة تماما، نرصد فيها ما يعادل خطوتين إلى الوراء، وخطوة واحدة إلى الأمام، لعل أبرز ما يرمز إليها مؤتمر أنابوليس عبر المنظور العسكري للتحرّك الإسرائيلي، وعبر المنظور السياسي الصهيو - أمريكي، أي محاولة
تطويع المزيد من البلدان العربية للمشاركة في خنق قضية فلسطين والمقاومة فيها، وفتح أبواب " التطبيع " والمشاركة في إخماد المقاومة في كلّ مكان .
إنّ المنظور التاريخي لهذا التطوّر يتجاوز حدودَ يومين في بداية عام ونهايته، ليؤكّد مشهد انحسار شوكة عسكرة الهيمنة الأمريكية، فإن لم يكتمل خلال عام 2008 م، فسوف يبدأ على الأقل، رغم ما ينتظر من جولات عنف دموية أخرى .
- 3 السقوط حضاريا
الأوروبيون أثارتهم مشاهد ضحايا جوانتانامو وأبو غريب والمعتقلات السرية والجرائم ضدّ الإنسانية في الفلوجة وغيرها، أضعاف ما أثارتهم الأرقام المفزعة عن مئات الألوف من القتلى والمعوقين والملايين من المشرّدين والمحرومين، ضحية الحروب الأمريكية، أو الصهيوأمريكية، قتلا وفتكا وتشويها وتشريدا وتدميرا، من أفغانستان إلى العراق ومن لبنان إلى الصومال ñ علاوة على فلسطين المنكوبة والشيشان المنسية - فلم يكن المعيار لدى الأوروبيين مقتصرا على الجانب العسكري، بل امتدّ إلى المخاوف ممّا تعنيه الهزيمة العسكرية على صعيد " معركة القيم " الحضارية البشرية، فالسقوط الأمريكي الأخطر من هزيمة عسكرية لا تقوّض الدولة الأمريكية والعالم الغربي عسكريا ولا ماليا ولا اقتصاديا ولا سياسيا، هو السقوط حضاريا، وهو - بالذات - ما لا يقف بتداعياته وآثاره المستقبلية، عند حدود من يشارك مباشرة في استخدام السلاح لقهر " الإنسان " ، بل يمتدّ ليشمل مَن تصدر المسيرة العسكرية عن بوتقة الواقع التطبيقي لفرض ما يعتبره قيما حضارية بالقوة الهمجية عالميا، ولعلّ الإحساس بالسقوط حضاريا ساهم في انتشار الأسلوب الأهوج للتعامل مع ما عُرف بالإساءات إلى الإسلام ومقام النبوّة والمسلمين، وهو ما بدا أشبه بمحاولات يائسة في وجه مجرى التاريخ على صعيد انتشار الصحوة في الأرض الإسلامية وخارجها . الأبعاد السلبية بمنظور حضاري ظهرت مبكرا، إنمّا حاول عقلاء الغرب التعامل معه في البداية وكأنّه " هفوات لسان " ، كما كان مع " الحروب الصليبية " على لسان بوش الابن، أو " الأفضلية الحضارية " على لسان بيرلسكوني، ولم يتخذ التحرّك الأوروبي لمواجهة الآثار المنظورة على الأرض صيغةَ " نفي " تلك المقولات أو " تأييدها " قدر ما أخذ صيغة محاولة إنقاذ الهيمنة المادية الغربية، لا الأمريكية بالذات، فبات العمل من أجل تجنّب وقوع هزيمة أمريكية ظاهرةٍ للعيان، هدفا أوروبيا، ساهم في مطلع عام 2007 م في تأييد التحرّك المشروط أطلسيا لمنع وقوع الهزيمة في أفغانستان، ومحاولة ممارسة الضغوط للإحاطة بقضية العراق بكل وسيلة، بما في ذلك بوابة قضية فلسطين، وبوابة ربط الدول العربية بمشاريع ما، شرق أوسطية، أو أوروبية متوسطية، ولا يهمّ شكل الإخراج قدر ما يهمّ المضمون في الحالتين . وهذا التحرّك الأوروبي بلغ مداه في المشروع الفرنسي لنيكولا ساركوزي آخر عام 2007 م، بعد أن شهد الاتحاد الأوروبي نفسه جملة تطوّرات سياسية واقتصادية في أكثر من اتجاه .
- 4 معركة العولمة
من معالم التطوّرات الأوروبية سقوط أجنحة " التأييد المطلق " للحروب الأمريكية في إيطاليا وإسبانيا وبولندا وأخيرا في بريطانيا نفسها ثم النمسا ñ فيما عدا ما يجنّب وقوع هزيمة أطلسية مطلقة في أفغانستان - مقابل بروز أجنحة " التأييد المشروط " للسياسات الأمريكية في ألمانيا وفرنسا، إذا ما وُضعت في قوالب غربية أو قوالب أطلسية مشتركة .
والواقع أنّ واشنطن تحصد الآن ما زرعته أوروبيا في حقبة الحرب الباردة، فكان سعيها آنذاك لدعم البناء الاقتصادي الأوروبي في مواجهة الخطر الشيوعي الشرقي، مقترنا بحرصها على بقاء مفاتيح القوة الضاربة الأطلسية، كآليات النقل البعيد المدى، والمراقبة
بالأقمار الصناعية في الأيدي الأمريكية، وهذا ما سمح بمحاولة التحرّك الانفرادي الأمريكي عالميا مع نهاية الحرب الباردة، حتى إذا بدا عدم جدوى هذه المحاولة، تضاعفت مطالب واشنطن تجاه الأوروبيين أن يطوّروا قدرتهم العسكرية، وأن يستخدموها في الساحات العسكرية التي أشعلتها الحروب الأمريكية ..دون جدوى .
بدلا من ذلك حققت الطاقة الاقتصادية والمالية الأوروبية قفزة نوعية في مواجهة العملاق الاقتصادي والمالي الأمريكي المنهك في تكاليف الحروب الجديدة، كالقفزة النوعية التي حققتها المجموعة الأوروبية نفسها في " السبعينيات " من القرن العشرين الميلادي
بعد أن أنهكت تكاليف حرب فيتنام آنذاك كاهل العملاق الأمريكي المنتصر في الحرب العالمية الثانية .
ولم يقتصر التحرّك في جبهة " العولمة " على الاتحاد الأوروبي الذي بلغ مدى بعيدا في توسعه الجغرافي اقتصاديا وماليا، وفي عودة دورة الازدهار الاقتصادي وإن شابها توسّع دائرة الفقر وتغوّل الرأسمالية المتشدّدة، إنمّا اتبعت القوى الآسيوية الطريق نفسه، فبدأ الاتحاد الروسي يستعيد قوّته اقتصاديا، ويعمل لاستعادتها سياسيا وعسكريا، وبدأ العملاق الصيني المنافس للغرب في مدّ أجنحته خارج حدود تحرّكه التقليدية، لاسيما في إفريقيا التي بقيت على الدوام ساحة استغلال غربية، وظهرت الهند كقوة إقليمية لا يقيّدها الارتباط التبعي بقوة أجنبية كما صنعت أنظمة الحكم في باكستان بنفسها، ولم يعد مستبعدا أن تتحوّل أرضية القوة الاقتصادية في آسيا إلى محور جبهة جديدة مشتركة على الساحة السياسية والعسكرية عالميا، قد تستميل إليها اليابان لاحقا، وهو ما
يسمح بالقول : إنّ معركة العولمة التي انطلقت في الأصل من الأرض الأمريكية شهدت ما قد يحوّلها إلى طوق حصار للقوة الأمريكية العملاقة عالميا، وبالتالي إلى ولادة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، تندثر في رماله أوهام الإمبراطورية الأمريكية نهائيا، ويشهد عام 2008م العلامات الأولى في القوقاز لمخاض هذه الولادة في فترة تالية .
- 5 القلق يحكم العالم
ذوبان القطب الشمالي ..خطريهدد البشرية كان من العوامل الإضافية التي دفعت إلى ترسيخ رفض السياسات الهوجاء الأمريكية - وقد بدأ قبل عام ظهور مفعول أخطار كبرى تهدّد البشرية دون تمييز، وتتطلّب جهودا مشتركة دون تأخير، وتحتاج مواجهتها إلى تمويل قد لا يبلغ حجمه معشار ما يجري إنفاقه على التدمير والتقتيل بالأسلحة الفتاكة الأمريكية، وأبرز تلك الأخطار ما يهدّد مستقبل المناخ العالمي وقد أصبحت بوادر الكوارث فيه واقعا قائما، عبر ازدياد وتيرة تعاقب وقوع الفيضانات والزلازل والأعاصير مع زيادة حدة وارتفاع منسوب الضحايا البشرية والخسائر المادية، فضلا عن تحوّل التكهّنات بهذا الصدد إلى دراسات منهجية، بأدلّة موثوقة تعطي عن العالم بعد بضعة عقود صورة مغايرة، تتقلّص فيها المساحة الجغرافية، وتذوب الجبال الجليدية في قطبيه، وتختفي جزر عديدة في محيطاته وأراض شاسعة على سواحلها، ولعلّ التحرّك الألماني لاستنفار أوروبا وصناعة حراك دولي في مواجهة التعنّت الأمريكي في قضية المناخ، يعود إلى أنّ معالم الكارثة لم تبق بعيدة عن ألمانيا الصاعدة في اتجاه قوة دولية جديدة، حتى أنّ وسطى درجات الحرارة فيها أعلى من أي معدل سابق منذ بدء التأريخ لحالة الطقس فيها .
ولا يمكن تجنّب كوارث مناخية كبرى أو بعضها ما لم تنقلب الآن المعادلة التي قامت على " الصراع " مع البيئة الطبيعية فأنهكتها لحساب تقدم مادي محض لصالح فئات محدودة العدد فاحشة الثراء .
ورافق بروز مخاطر المناخ ظاهرة انتشار الهوّة الفاصلة بين فقر وثراء، وتخلّف وتقدّم، وجهل وعلم، ومرض وصحة، وبؤس ورفاهية، داخل كل دولة غربية متقدّمة على حدة، كما هي منتشرة على صعيد العالم ككلّ، عبر السياسات الغربية منذ الحرب العالمية الثانية
على الأقل، ولم يعد مستبعدا ازدياد انتشار مظاهر التمرّد الأولى كما عرفتها الإضرابات العمالية في فرنسا وألمانيا عام 2007م، إضافة إلى الاضطرابات الاجتماعية في فرنسا إلى جانب استمرار الاحتجاجات المرافقة للمؤتمرات الدولية المعارضة لانحياز مسار العولمة على حساب النسبة العظمى من سكان الأرض .وباتت هذه المظاهر تذكّر بما شهده العالم الغربي بعد انتشار الصورة المتشدّدة الأولى للرأسمالية خلفا للإقطاع واستبداده، فأسفرت في حينه عن ولادة الشيوعية الماركسية من رحم العالم الغربي .
لقد كان غياب المجموعة العربية والإسلامية - رغم اللقاءات على مستوى القمم ودونها - غيابا خطيرا، من قبل عام 2007م وأثناءه، عن مجمل ما يجري في عالمنا المعاصر، ومختلف قضاياه المشتركة، بل وعن القضايا التي تعتبر في جوهرها ونشأتها وما ينبني عليها
مستقبلا قضايا عربية وإسلامية بامتياز .هذاالغياب الخطير لا تعوّضه علاقات دولية ثنائية من أي مستوى، لا سيما إذا غلبت عليها صفة التبعية، ولا تخفف من تبعاته وعواقبه أوضاع استقرار موهومة، ما دامت قائمة على قمع باسم الأمن، وحجر للحريات والحقوق باسم الطوارئ، وقهر لعامة السكان بفرض الوصاية من جانب فرد حاكم أو حزب متسلط أو انقلاب عتيق يجدّد وجوده وسيطرته بمختلف الوسائل غير المشروعة، مع الانشغال بذلك كلّه عن العمل الجادّ الضروري لتحقيق تقدّم حقيقي، وازدهار فعلي، لا يكون الإنفاق فيه بلا حساب على مظاهر عمرانية دون البنية التحتية، ومشاريع استهلاكية تتخللها موبقات الرشوة والفساد ويعادل حجمها أضعافَ أضعافِ ما ينفذ من مشاريع استثمارية غالبا ما تُربط بمراكز قوى المال وصناعة القرار خارج الحدود .ربما كان لأحداث ماضية أثر على
ارتفاع مستوى الوعي الشعبي تجاهها، لاسيّما تحت وطأة ما صنعته موجة العداء للإسلام تحت عنوان الأصولية أولا، ثم الإرهاب ثانيا، وعبر الإساءات المباشرة ثالثا .وربما كان لتلك الأحداث دورها في انتشار شيء من الوعي السياسي على مستوى صانع القرار، وقد يحكم عام 2008م على مدى ثبات ما ظهر من بوادر محدودة في هذا الاتجاه، كان أبرزها في الشهور الاثني عشر الماضية قطع خطوة أخرى في طريق التكتل الخليجي، ويبقى الأمل أن تُبذل الجهود لتحقيق تكتل عربي أشمل، وإسلامي أوسع نطاقا وأعظم تأثيرا إن أصبح واقعا دوليا قائما على الأرض .ويسري وصف " البوادر الإيجابية " أيضا على مؤشر انفراج في العلاقات الإيرانية - العربية، والتركية - العربية، شريطة ألاّ يُربط بغرض تهدئة جبهة من الجبهات، لتحييدها تجاه اشتعال الحريق المحتمل - كما يؤخذ من التوجهات الدولية - في جبهات أخرى، وهو ما تنذر به التطوّرات في ساحتي السودان والصومال، وساحتي سوريا ولبنان، إضافة إلى سيولة التطوّرات الأخيرة داخل العراق وفي منطقة الأكراد .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.