وقد حار أرباب الفلسفة وأساطين الفكر، في لب السعادة، ومكمنها، وسرها، وكنههها. فتنازعوا حتى ذهبوا في تقديم الأجوبة عن السؤال اللغز، كل إجابة، ودقوا في كل فلاة وتداً، وأناخوا في كل أرض ركاباً. فانحاز أرباب كل مذهب إلى تغليب رأيهم، فقال قوم: إنها الشباب! فقلنا لهم: كيف يسعد الكهول، إذن، والشيوخ؟! وقال قوم: بل هي الثروة والمال والغنى! فقلنا لهم: هب أن ما قلتموه صحيحاً، فماالذي يجعل بعض الفقراء في سعادة؟! وقال آخرون: إنها الصحة! فقلنا لهم: لو افترضنا أن قولكم صوابٌ، لما عاقرت السعادة باب مريض، ونحن نرى أن بعض المرضى يرفلون بثياب السعادة والفرح! وقال قوم: إن السعادة في الحصول على الذرية واكتساب الأولاد! فقلنا لهم: إذا فلن تدلف سعادة باب عقيم، وهذا خلاف الواقع! وقال غيرهم: إنها في الزواج! فقلنا: كيف يسعد العزاب حينها؟! وقال أقوام: إن السعادة في الحب! فقلنا لهم: افئن نضب الحب أو ضعف، أتحل التعاسة؟! ولقد أعيانا قول من اعتبر السعادة في الرضا، فما وجدنا لرأيه معيباً، فالمريض يسعد إذا رضي بما كُتب له من مرض، وإذا اعتبر أنه في نعمة مقارنة بغيره، والعقيم يسعد إذا رضي، والفقير إن رضي بما أوتي على قلته ملأ عقله وقلبه بالقليل، بينما المستكثر في نهم يشغله آخره عن أوله. لقد أعطى الله كلاً منا، فربط الاكتفاء بالرضا، إذ قال لنبيه: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)! أفلا نتأمل كيف علم الرسول العظيم أمته دعاء الاستخارة، فأرشدهم فيه أن يدعوا خالقهم، أن يقسم لهم الخير حيث كان، ويرضيهم به. فمن أعطي من الخيرات ما لا حصر له، لن يسعد بها، بلا رضا! إن الرضا، مفهوم عقلي، لا علاقة له بالأشياء المعدودة، ولا بالكثرة والقلة، وهو شقيق القناعة. ومن الخطأ الخلط بين الرضا أو القناعة وبين الطموح والحرص على التطور والتقدم، فليس بينهما تناقض، إذ إن الطموح الحريص على الترقي والتفوق في حياته ومعرفته ودنياه، قد يكون راضياً فيسعد بما يحققه، ويجتهد لتحقيق المزيد، وقد يقع في عكس الرضا، وهو السخط فيكون ساخطاً، فيغضب على حاله، ويسخط على واقعه، ثم يثمر ذلك حالة سخط على من حوله، فلا يجني من ذلك إلا اضطراب النفس، مقابل سكونها، والقلق مقابل الهدوء، والشقاء مقابل السعادة. بآخر السطر، الراضون هم من يرى الجانب الممتليء من الكأس، ومن يغلب الإيجابيات على السلبيات، ومن يضخم الفضائل لأن ذلك يجعلهم أكثر عطاءً وأميز عملاً، ويفتح نفوسهم إلى الحياة، ويجعلهم أكثر إقبالاً على الخيرات، بينما يملأ السخط نفوس أصحابه بالضغائن والأحقاد، ومشكلة الحقد أنه لا يرتفع بصاحبه، ولله در عنترة إذ قال: لا يحمل الحقد من تعلو به الرُتبُ ولا ينالُ العلا من طبعه الغضبُ