قصة أرخميدس مع تاج الملك واحدة من أجمل القصص الكلاسيكية في تاريخ العلوم.. وأرخميدس (الذي ولد وتوفي قبل الميلاد بمئتي عام) يعد أبو الهندسة التقليدية وأحد أعظم علماء الرياضيات والحساب في التاريخ. وقصته مع تاج الملك بدأت حين شك ملك صقلية في أن الصائغ الذي صنع له التاج أدخل فيه شيئاً من النحاس بدل الذهب الخالص.. ولأنه كان جميلًا ورائعاً لم يرغب بخدشه أو إتلافه - ناهيك عن صهره للتأكد من وجود النحاس فيه.. لهذا السبب طلب من أرشميدس التأكد من مكوناته دون إتلافه أو اقتطاع شيء من مادته (وهو يشبه طلب أحدهم التأكد من طعم الفاكهة دون مضغها أو فتحها أو حتى خدشها). وبهذا الشرط المعقد أصبحت مهمة أرخميدس صعبة وبقي أياماً يفكر في الموضوع.. وذات يوم، وبينما كان يغتسل شاهد الماء يخرج من الحوض بمجرد دخوله فيه فأدرك أنه وجد الحل فخرج عارياً الى الشارع وهو يصيح (ايوريكا، ايوريكا) وتعني باليونانية (وجدتها، وجدتها)!! .. وما وجده أرخميدس أن انخفاض وزن جسمه (حين دخل في الحوض) يعادل وزن الماء المزاح (الذي خرج منه) وأن حجم الماء المزاح (من الحوض) يساوي حجم جسمه المغمور فيه!! .. وبهذا أدرك إمكانية معرفة مكونات التاج دون إتلافه من خلال غمره في الماء/ ثم قياس حجم الماء المزاح / ثم مقارنة حجم الماء الفائض بحجم تاج موازي من النحاس أو الذهب (.. وبكلام أكثر بساطة، تختلف كمية الماء المزاح لتاج مصنوع من الذهب عن تاج من نحاس).. وبهذا الاكتشاف تسبب أرخميدس في قطع رأس الصائغ ولكنه قدم للبشرية واحداً من أقدم القوانين الهندسية "قانون طفو السوائل".. وأنا شخصياً أرى أن أرخميدس قدم لنا في هذه التجربة قانوناً أعظم من "طفو السوائل" أدعوه (طفو الافكار).. فقصته مع تاج الملك تشرح لنا جزءاً مما نسميه إلهاماً وتجلياً وفتحاً ربانياً.. فرغم أن الإلهام يأتي فجأة إلا أنه محصلة نهائية لانشغال سابق بالفكرة (وسبق أن كتبت مقالًا أكدت فيه أن الفرص العظيمة تأتي فقط للعقول المستعدة).. فدماغ الإنسان لايتوقف أبداً عن التفكير حتى أثناء النوم والاسترخاء.. وهو "عنيد" لا ينسى أصل المشكلة حتى إن اعتقدنا نحن نسيانها. وكثيراً ما يبرز الحل في رؤوسنا فجأة أثناء النوم أو الجلوس في الحمام أو التوقف عند إشارة المرور بلا سبب أو مقدمات. وحينها قد نتحدث عن هذه الظاهرة كإلهام لا دخل لنا فيه؛ ولكن الصحيح ان عقلنا الباطن لم يتوقف طوال الفترة السابقة عن تحليل المشكلة ومحاولة تفكيكها وايجاد حلول لها!! - (وخذها مني نصيحة) حين ينشغل دماغك بمشكلة ما، وتفكر فيها بعمق وإخلاص؛ كن على ثقة بأن حلها سيهبط عليك لاحقا كوحي أو إلهام مفاجئ.. ويمكن تشبيه مايحدث هنا بميزة "البحث الآلي" في مذياع السيارة ؛ فقد ننسى لفترة أننا ضغطنا "زر البحث" ثم نفاجأ بعد فترة بظهور الأغنية أوصوت المذيع.. وبالمثل يستمر عقلنا الباطن في البحث عن الحل - بطلب منا - وحين يجده يدفع به بلا مقدمات الى عقلنا الواعي فنظنه إلهاماً - وقد يظنه البعض الآخر وحياً من علي قدير.. ومثل جميع العلماء - قبله وبعده - انشغل أرخميدس بالمعضلة (وقلبها في رأسه) حتى اقتربت من النضج والخروج في أي لحظة وأقرب إيحاء.. وهكذا لم يكن مفاجئاً أن ينفجر الحل في رأسه هو بالذات (حين أتت الفرصة المناسبة) من دون ملايين الناس الذين لم يشغلهم خروج الماء من البانيو!! وحين تتأمل تاريخ العلم والعلماء تجد أن تقدمنا الحضاري مدين للحظات إلهام مماثلة تشبه ما حدث لأرخميدس في حوض الاستحمام.. لحظات "يوريكا" خطر ببالي (في هذه اللحظة) جعلها محوراً لمقالنا القادم!!