ثمة تساؤلات لدى البعض عن كيفية دخول المعلبات الغذائية إلى بلادنا، وكيف بدأ المجتمع يتقبّل ما يسمى "ثقافة الغذاء المعلب"، التي ساهمت بدورها بتعدد أصناف الأطعمة المعروضة والمقدمة في موائد الآباء والأجداد وكانت لا تخلو في مجملها من أربعة أصناف من الطعام "البر" و"اللحم" و"التمر" و"اللبن"، ناهيك عن "السمك" والمأكولات البحرية لدى سكان السواحل، الذين هم أكثر الناس معرفةً بكل ما هو جديد؛ نظراً لارتباطهم التجاري المباشر بالعالم الخارجي في الشرق والغرب. المعلبات انتشرت مع برنامج التغذية المدرسية حفظ الأطعمة بالملح مرت بدايات تعليب الأطعمة وحفظها بعدة تجارب، إذ يذكر المؤرخون أنّ العرب قديماً كانوا يلجؤون إلى تخزين الأطعمة -لاسيما اللحم- عن طريق تجفيفه وذر الملح عليه؛ لحفظه من التعفن بعد تقطيعه، وهو ما تسميه العرب "القديد" أو ما يطلق عليه الآن لحم "القفر"، وقد ذكر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- هذا النوع من الطعام حينما قال لرجل أخذته الرعدة أمامه فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد"، وفي هذا دلالة على أنّ "القديد" أكلة شعبية ربما يلجأ إليها من لا يتوفر له اللحم الطازج، وهو دليل على عدم التكلّف وبساطة العيش. كما كانت العرب تحفظ الأطعمة بالأواني الفخارية أو "البرمة" وهي في لغة العرب القدر المصنوعة من الحجر، ويكثر استعمالها إلى يومنا هذا في "اليمن"، ومنها يسمي أهالي "جازان" مرقة اللحم ب"البرمة" أو "البرم"، وهي أكلة يمانية مشهورة. صورة لواجهة «بقالة الحارة» حيث تظهر معلبات غذائية متنوعة وكانت نساء العرب وغيرهن يبحثن كثيراً عن طرق أفضل لحفظ الأطعمة وبقائها سليمة من التعفن والفساد، وقد كثرت المحاولات في ذلك، حتى إنّ العرب كانوا يحفظون السوائل والمشروبات في القرب والجلود للحفاظ على برودتها -لاسيما في السفر والترحال-. وصلت أولاً إلى موانئ جدة وينبع واشتهرت مع «أرامكو» قبل 80 عاماً.. وأصبحت هدايا ثمينة مؤلفات وكتب ويبدو أنّ هذه المعضلة الناشئة عن فساد وتعفن الأطعمة هي ما دعت أحد أدباء القرن الرابع الهجري أو "هلال العسكري" لوضع كتاب طريف في عنوانه وفي محتواه سماه "المعجم في بقية الأشياء" تتبع من خلاله مسميات ما يتبقى من الأطعمة والأشربة، وماذا كانت العرب تقول عنها، وحتماً كان هذا قبل ظهور الأساليب الحديثة في حفظ ما تبقى من الأطعمة، كما أنّ هذا الكتاب سبق كتاب "آداب المؤاكلة" الذي ذكر فيه "الفقيه بدر الدين الغزي" عيوب المؤاكلة وأصناف الناس مع الطعام، وذكر منهم ما اصطلح العرب على تسميته "المخرِّب"؛ وهو الذي إذا أكل من صحيفة لم يبق فيها إلاّ العظام، وعليه لا فائدة حينها من حفظ ما لم يبق في الأواني. ويقال إنّ أول من عرف طرق حفظ الأطعمة بالأواني المغلقة هم "عرب الشام"، خصوصاً في طرق تخزينهم للعصائر والمخللات وأنواع الفاكهة، ولعل بعض هذه الطرق انتقلت إلى غرب أوروبا إبان الحروب الصليبية، مثلما حدث في عملية انتقال الصابون في القرن السادس الهجري؛ حينها نقله الصليبيون إلى بلادهم بعد ما شاهدوه منتشراً في بلاد الشام. أشهرها التونة «طابخ روحه» والقيمر مع السكر وحليب «أبو ولد» و«جبنة أم حديجان» و«المربى» تعليب الأغذية وتقول بعض الروايات إنّ الإيطالي "سيلانزاني" اكتشف في عام 1675م طريقة لحفظ الأغذية من التعفن وذلك بعد تسخينها وتعبئتها ساخنة في أوانٍ محكمة الإغلاق وتبريدها فوراً، إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أعلن الإمبراطور الفرنسي "نابليون بونابرت" عن جائزة مالية لمن يبتكر طريقة جديدة لحفظ الأطعمة، وربما دعت الحملات العسكرية الكبيرة والمسافات الطويلة التي يقطعها الجنود الفرنسيون الإمبراطور الفرنسي إلى إعلانٍ مثل هذا؛ إذ كثيراً ما عانت جيوش "نابليون" من نقص الأغذية الدافئة في البلاد العربية كحملته على "مصر" وجنوب بلاد "الشام"، وقد تكللت مبادرة "نابليون" بالنجاح بعد أن توصل الفرنسي "نيقولا أبرت" عام 1809م وهو صانع حلويات في باريس إلى طريقة لحفظة الأغذية في أوانٍ زجاجية محكمة الإغلاق، مستخدماً سدادات وأغطية من "الفلّين" مطلية بطلاء شمعي خاص تم تسخينها بدرجة غليان معينة. رواج المعلبات الغذائية في أسواق الرياض قبل أكثر من 65 عاماً وكان "نيقولا" قد ألف كتاباً سماه "حول تعليب الأغذية" الذي نشر بعد عام من اكتشافه هذا أي عام 1810م، وصف فيه أكثر من خمسين نوعاً من الأطعمة، إلى أن جاء البريطانيان "توماس سادينكتون" و"بيتر دوراند" وسجلا طرقاً مماثلة إلاّ أنّ هؤلاء جميعاً -كما يقول الباحثون- لم يتمكنوا من معرفة الأسباب الحقيقية وراء فساد الأغذية ولذلك عزوها إلى ملامسة الغذاء للهواء، حتى جاء عام 1864ه وتوصل "لويس باستور" إلى اكتشاف الأحياء الدقيقة التي -برأيه- هي سبب فساد وتعفن الأغذية. أول من عرف طرق حفظ الأطعمة بالأواني المغلقة هم «عرب الشام».. المعلبات في بلادنا ولعل دخول المعلبات الغذائية إلى بلادنا وافق بدايات القرن الميلادي المنصرم، حيث دخلت المعلبات عبر الموانئ في سواحل "جدة" و"ينبع"؛ وذلك لتواصل التجارة بين الغرب الأوروبي وجنوب آسيا ممثلاً ببلاد "الهند" و"الصين"، إبان ازدهار التجارة البحرية بعد افتتاح "قناة السويس"، كما أنّها ظهرت بصورة أشمل وعرفها الأهالي بصورتها الحالية مع بداية العمل بحقول النفط واستلام شركة الزيت العربية السعودية "آرامكو" امتياز التنقيب في باطن الأرض. استقبلت "أرامكو" البواخر المحملة بالمؤن والسلع الغذائية القادمة من الولاياتالمتحدة بعد توقيع العقد معها بداية خمسينات القرن الهجري الماضي -أي قبل ثمانين عاماً بالتمام-، وأنشأت حينها "أرامكو" مستودعات التغذية، كما افتتحت محال التموين الغذائي لكوادرها الفنية والإدارية العاملة في مشروعات التنقيب، وحينها عرف الآباء -وربما الأجداد- العاملون في "أرامكو" المعلبات الغذائية وتعاملوا معها، بل نقلوها لذويهم كهدايا ثمينة، وبالطبع كان ذلك مع طريقة كيفية التعامل معها وفتحها. معلبات اللحم البقري والتونة قديماً ويُروى عن بعض أبناء ذلك الجيل من الذين أدركوا بدايات العمل مع "أرامكو" أنّ سيارة ال"بيك آب" التي كانت تحمل مؤنة الغذاء للعاملين في المشروع كانت تحمل رقم (1-8)، ومن ذلك سميت سيارة ال "بيك آب" ب"ونيت"، مجاراةً للنطق برقمي (1-8) باللغة الإنجليزية. الإيطالي «سيلانزاني» اكتشف عام 1675م «التعبئة الساخنة» وتبريدها فوراً.. مواجيب وسلوم ولأنّ العربي ابن بيئته ومجبول -كغيره- على حب معرفة الجديد وتقديم الغالي والثمين لضيوفه وذويه؛ فقد حرص الآباء والأجداد على تقديم المعلبات -يوم أن عرفوها- لأهاليهم وجيرانهم، بل إنّهم قدموها لضيوفهم كوجبة إفطار، إذ لا محل لها في مائدة الضيوف أثناء وجبتي الغداء أو العشاء ولم يكن ذلك لندرتها أو لعيب في تصنيعها بقدر ما هي "سلوم ومواجيب" أبناء ذلك الجيل، الذين يرون في تقديمها نقصاً من قدر الضيف وعيباً لا يغتفر في آداب الضيافة وأصول الكرم العربي، على الرغم من أنّ بعضهم كان يتمنى لو قُدمت له معلبات "القشطة" و"زبدة الفول السوداني" و"الجبن" و"المربى" بأشكاله وأصنافه المتعددة التي كانت رائحته الزكية تملأ أرجاء المنزل. إقبال كبير من الأسر على المواد المعلبة في الثمانينات طابخ روحه! ولأنّ الجوع كما يزعم صاحب هذه الأبيات قد "صفق غاربهم" فلا عجب حينها أن يفرحوا بهذه المعلبات التي قدمت لهم "بلح الشام" و"عنب اليمن" في آن واحد، بل إنّها اختصرت لهم عملية الإعداد والطهي، حتى أطلقوا على علب "التونة" عبارة "طابخ روحه"؛ أي أنّه جاهز للأكل وليس بحاجة طهي، كما كانوا يميزون بين أصناف المعلبات بما تحمله من صور ورسومات فهذا حليب "أبو ولد" وهذا "أبو قوس" وتلك "جبنة أم حديجان" وهذا "رز أبو بنت" وذاك "شاي أبو حبل" وهذه "حلاوة أبو نار"، وربما احتفظت بعض هذه المنتجات بأسمائها التي راجت بين الناس في ذلك الوقت. كان هذا في محيط "أرامكو"؛ أما في بقية أقاليم بلادنا فتذكر كتب التاريخ أنّ الوفود والرحالة الذين تنقلوا في أقاليم هذه البلاد في القرن المنصرم كانوا يتزودون ببعض المعلبات الغذائية، كما أنّ رجال المراسم الذين يصحبونهم بأمر من "الملك عبدالعزيز" كانوا مزودين بمؤونة متكاملة لا تخلو بأي حال من الأحوال من المعلبات الغذائية. الفرنسي «نيقولا أبرت» ابتكر قبل 200 سنة أواني زجاجية بأغطية من «الفلّين» معلبات وبسكويت وقد ذكر صاحب الرحلة اليابانية الفريدة "إيجيرو ناكنو" أنواع الطعام التي صحبتهم منذ خروجهم من "جدة" حتى وصولهم "الرياض"، وذكر تفصيل ما شاهده بأسلوب شيق جذاب في كتابه "الرحلة اليابانية إلى الجزيرة العربية"؛ ذاكراً خلالها أنّ الطباخ الذي كان بمعيتهم يقدم لهم حساء الطماطم المعلب مع الرز والكباب والدجاج المشوي، كما ذكر أصنافاً أخرى من المعلبات حين زار المهندسان الأمريكيان اللذان كانا يقيمان بجوار قصر "البديعة" في مهمة استكشاف مواقع المياه، كما أنّه ذكر أنّه قدم لأطفال "قرية السيل" نوعاً من البسكويت وهو بلا شك كان منتجاً جديداً ربما حصل عليه من مدينة "جدة" أو من مقر إقامته في القاهرة حيث قدم. حليب «أبو ولد» اشتهر قديماً بصورة الطفل الذي يرتدي الشماغ والعقال كما أنّ الرحالة الياباني "ناكونو" وصف مائدة "الملك سعود" -ولي العهد حينها- قائلاً: "تكون الطعام من حساء لحم الضأن الدسم جداً، ومن الدجاج وأرز به قطعة صغيرة من لحم الضأن المحمرة بالزيت وفطيرة كبيرة حلوة جداً جداً، وفاكهة المانجو المعلبة"، ثم إنّه وصف مقر إقامة المهندسين الأمريكيين اللذين كانا يسكنان في ملاحق قصر "البديعة" حيث قال إنّ غرفة الطعام تحوي: "أرففا كبيرة عليها حوالي ثلاثمائة علبة من الطعام المحفوظ المصنوع في أمريكا"، وقال: "إنّ المهندسين أحضراها من معسكر الحسا"، ثم علق قائلاً: "وبدا كأن لديهم دكاناً كاملاً لبيع المعلبات وتخزينها"، كما ذكر أنّه شاهد في سوق "الرياض" -المشيد من الطين- محلاً لبيع الطعام المعلب، وزيت الطعام التي صنعت باليابان، ولاحظ أنّ هذا كان في شتاء عام 1358ه. معلب الشكولاته الأكثر إقبالاً من الأطفال تنافس محموم في زمننا هذا لا تكاد المنازل أن تخلو من المعلبات الغذائية، فعلى الرغم من ظهور المبردات والثلاجات وتقدم أساليب وطرق حفظ الأطعمة؛ ظلت المعلبات الغذائية حاضرة بقوة في ثلاجات منازلنا وفي موائدنا، بل إنّها أصبحت جزءاً من غذائنا اليومي، فبعد أن كان فتح علبة من التونة أو الساردين قد يوقظ أبناء الجيران والحارة أصبح المعلب الآن يرفق بحملة إعلانية وتسويقية كي يصل مائدة الأسرة، بعد أن يزاحم جملة من المنتجات المماثلة التي زادت معها ثقافة المجتمع حتى أصبح المستهلك حريصاً على قراءة تاريخ الإنتاج، ومكونات التصنيع؛ مما يساعده في اختيار المنتج الأفضل صحياً والأكثر ثقة لدى المستهلك، لا سيما وأن خطوط الإنتاج للصنف الواحد أصبحت عديدة ومنوعة في ظل تنافس تسويقي محموم بين الشركات الغذائية المنتجة، التي بقدرها أن تحكي اختلاف الذائقة بين الشعوب البشرية بقدر ذاك تخبرنا أن الإنسان ابن بيئته وأنّ الحاجة أم الاختراع. جيل اليوم أمام وسائل تعدد حفظ الأطعمة وتنوع المواد الغذائية المعلبة يا زين القيمر بالسكر طعم القواطي يطربنا صوّر أحد الظرفاء حال العاملين في «أرامكو» مع «قواطي» الجبنة و»القيمر»، وتذكر حاله مع الجوع وهو يقول لصاحبه أبو راشد: فك الجبنه يا بو راشد قبل الخواجة يطردنا والقوطي اللي فتحته تونه من بيت معزبنا دام الريس راضي عنّا وسع صدرك لا تنشبنا يا زين القيمر بالسكر طعم القواطي يطربنا عجل تكفى صب الشامي ورانا شغلن متعبنا أيام الديرة نذكرها الجوع مصفق غاربنا