كان طعام الأجداد -لا سيما في وسط وشمال الجزيرة العربية- لا يتجاوز خمسة أصناف هي القمح والبر واللبن واللحم والتمر، وقس على ذلك موائدهم التي لا تخرج عن مشتقات هذه الأصناف عدا ما تنبته الأرض من خيراتها، فالجريش والمرقوق والقرصان والحنيني والقشد والمطازيز والقفر «القديد»، كلها من هذه الأصناف الخمسة، وقد تجدها تتكرر في جنوب الجزيرة العربية بمسميات أخرى يستثنى منها لحم الإبل الذي يستبدل في بعض المناطق بلحم الشاة بأنواعها، ويزيد عليها العسل الذي تشتهر به المناطق الجنوبية، لتتكرر الأكلات ذاتها بمسميات مختلفة كالعبيلة والعريكة والعصيد والسمن بالعسل، وهي أيضاً غير بعيدة بأصنافها الخمسة عن تلك المائدة «الحساوية» التي تستبدل لحم الإبل بالسمك مع بقاء فرصة التواجد للحوم الأغنام والأبقار على المائدة الحساوية التي يعد منها الهريس والمكبوس. كانت هذه الأصناف تدور في موائد أجدادنا كما هي، وبمسميات وطرق مختلفة في الطهي والإعداد، ما عدا المائدة الحجازية التي كانت تتنوع بتنوع الوافدين إلى الديار المقدسة ممن حملوا معهم الطرق المتبعة لإعداد الأطعمة؛ فظهر الفول والعدس والمعصوب والرز البرياني والبخاري، وعُرف خبز التميس الذي وفد من وسط آسيا من بلاد خرسان حين تحدث عنه الرحالة ابن بطوطة ونقله باسمه الحالي، مشيراً إلى أنه لم يره من قبل رغم أنه كان قد مر بالحجاز قبل وصوله لخرسان. إذا عزم الواحد تلقى «قدور ودلال وفناجيل» جاره سابقته على البيت وأهل الحي «معازيب» يبيضون الوجه تعاون الجيران كان إعداد الولائم عند الأجداد يتطلب تعاون الجيران، فلا غضاضة في أن يطلب المضيّف من جاره بعض القدور أو الصحون هذا إذا لم يبادر جاره بإرسالها، بل سوف تجد الجيران يرحبون بالضيف ويستقبلونه، وربما يقدم أحد أبنائهم فناجين الدلة على الضيوف والآخر يصب لهم الماء، كما ستجد النساء يتعاون على إعداد وطهي الطعام، ومع قلة ذات اليد وندرة الزاد كانت الفرحة تعم الصغير والكبير كما كانت البركة تعم أرجاء الحي، ولا أدل على ذلك إلاّ قول الحويفي لجاره: لضاق صدري قلت هيا لابن سيف اللي جنوبي يا الخشيبي محله اللي لجاه المسايير لقى الكيف يلقى رجال ومجلسن ما يمله ودلال فوق الجمر صفرن معانيف فنجالها يجلي عن الكبد عله لصبها سلمان دقر له الليف بكرن على هيل النقاوة يزله مع منسفن يشبع به الجار والضيف ياخذ عليها اللي يبا السور عله «قطّة» شراء الخروف وقد وثّقت الحياة الاجتماعية في نجد قصصاً ومواقف، وأكثر من ذلك عادات ألفها الناس قبل أكثر من ستين عاماً، حيث كان «الجيران»، وأبناء «العصبة» يتفقون على شراء خروف يتم توزيعه بالتساوي بينهم، فلا يوجد في ذلك الزمن مقدرة أن يشتري الإنسان لوحده خروفاً بمبلغ وقدره، وإنما يجتمع خمسة أو ستة أشخاص ويشتركون في ثمنه، كما لا يوجد وقتها ملاحم تبيع اللحم بالكيلو، ولا يوجد أيضاً مكان يحفظ فيه الإنسان اللحم بهذا الكم. جيران «يتقاطون» في شراء الخروف ويوزعونه بينهم ومنح قطعة لحم لجار فقير يقلّبها على النار مع عياله وعلى الرغم من هذا السلوك الاجتماعي الذي تفشى بين أهل الحارة، إلاّ أنهم أيضاً لا ينسون بعضهم بتوزيع اللحم على محتاج أو فقير لم يشاركهم «القطة»، حيث كان الواحد منهم يعطي جاره «قطعة لحم» صغيرة، ويبدأ ذلك الجار تقسيمها قطعاً صغيرة، ويقربها عند النار قطعة في كل يوم ليتذوق وأبناؤه طعم اللحم فقط. تحولات سريعة تقدم الزمان وتبدلت الأحوال وعاشت مجتمعاتنا بعد الطفرة الأولى «بداية القرن الهجري الحالي» حياة الاستقرار والتمدن، بل توسعت الحواضر وتباعدت البيوت والمباني، وتباعدت معها بعض صور التقارب والتكافل بين الأهل والجيران حتى طغى جانب «الرسميات على المناسبات والحفلات، وصار الضيف يجد في الفنادق والشقق المفروشة استقلالية له ولعائلته، وقد لا يسلم هذا التصرف من شعور نبيل يتجلى في حرص الضيف على رفع الحرج و»الكلافة» عن مضيّفه، لاسيما وقد تبدل حال الجيران والأهل والخلان، وأصبحت الولائم تعد في المطابخ والمطاعم، وأصبح التباهي والتفاخر لدى البعض في تنويع الطعام وإطالة المائدة، والإتيان بأصناف أكلات متنوعة، حتى اختَصَرت بعض الولائم المطابخ العالمية في مائدة واحدة، فهذه «إسباكيتي إيطالية»، وهذا «برياني هندي»، وتلك صينية «دجاج صيني»، وذاك «طاجن تركي أو مغربي»؛ ناهيك عن أساليب التقديم وطقوس الضيافة التي زاحمت في عصرنا الحالي «سلوم الأجداد» و»مواجيب» الضيافة؛ حتى استبدلت المائدة الصغيرة بالبوفيه المفتوح، كما استبدلت النساء مصطلح «القهوة عند فلانه» باجتماع «العصائر والفطائر» الذي لا يخلو من أنواع «الشوكولاته» و»الكاكاو»؛ في حين وجد الشباب في مقاهي «الموكا» وال «اسبرسو» وال «كابتشينو» متنفساً لاجتماعهم وجلساتهم بعيداً عن عين الرقيب، وحضوراً أكثر للعالم المفتوح في الجوال «والإنترنت»، بل قد يحرص البعض من الرجال أو النساء أن يجمع ضيوفه في مطعم فاخر أو في استراحة خاصة، حتى تلاشت الصورة النمطية للمائدة العربية التي وصف أصحابها في سابق الزمان بأنهم عرب صلف يجلسون على الأرض، ويأكلون بأيديهم، ولا يعرفون الجلوس على المقاعد، كما لا يأكلون بالملاعق، في حين كان هذا سر من أسرار حضارتهم وسمة من سمات سماحتهم التي صورها ذلك الشاعر الهزلي بقوله: اضرب بخمسك لا تأكل بملعقةٍ إن الملاعق للنعماء كفرانُ بالأمس قمت على المرقوق أندبه واليوم دمعي على القرصان هتانُ هذا الجريش طعام لا مثيل له عليه من مستهل السمن غدرانُ عزايم مقاهي خمس نجوم ..«شوفوني وأشوفكم» ضيوف زمان يلتفون على «مثلوثة» رز وجريش وقرصان عزيمة جار تحولت إلى حالة فرح داخل الحارة