كشف المرأة لوجهها محل خلاف فقهي قديم بين المذاهب الأربعة، ولكن حتماً لم يقل أحد بتحريمه؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي بالدليل الصريح الذي هو مناط الحكم والتشريع، وإنما هو اجتهاد غلبت عليه مصالح ومقاصد شرعية أخرى، إلى جانب تفاوت في تفسير النصوص، فمثلاً من التبس عليهم تفسير (آية الحجاب) لم يفرقوا بين الجلباب والعباءة والجيب، والنقاب والبرقع والخمار؛ والزينة والملابس والوجه. وقبل أربعين عاماً أو أكثر لم يكن الحجاب المقيد بتغطية الوجه مفروضاً من المجتمع على المرأة؛ لأسباب ذات ارتباط بثقافة المجتمع آنذاك، ولكن من عجز أن يأتي بالدليل على تحريم كشف الوجه، ربط التحريم بالقاعدة الفقهية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، ثم تغذية هذا المفهوم بالترهيب، والخوف من الفتنة، وأكثر من ذلك تحويل تغطية الوجه إلى عادة وتقليد اجتماعي، وليس حكماً شرعياً. ومع تزايد أعداد النساء وعياً وسلوكاً وأخلاقاً وثقة في النفس كسرن قاعدة التقاليد المجتمعية -التي لم ينزل الله بها من سلطان- وخرجن إلى مجتمعهن كاشفات للوجه لكنهن متحجبات، ومحتشمات، ويؤدين أعمالهن من دون خوف أو تقييد أو حتى تأنيب ضمير. «الرياض» تناقش قضية كشف المرأة للوجه، وتحترم جميع وجهات النظر المؤيدة والمخالفة، ولكن الأهم في الموضوع هو احترام المرأة كإنسانة تحصنها القيم، والأخلاق الفاضلة، والخوف من الله، قبل أن يحصنها النقاب؛ على اعتبار أن من تكشف وجهها، ومن ترفض ذلك هو حق مكتسب لأي طرف، ولا يجوز التقليل منه، أو الإساءة إليه. الاختلاف رحمة وقالت "هنادي حجازي" أن هناك اختلافاً بين الأئمة حول مسألة كشف الوجه، واختلاف الأئمة رحمة بالأمة، ولكني أعتقد أن كشف الوجه أمر يرجع إلى قناعة المرأة وإحساسها أن وجهها لا يمكن أن يؤدي إلى فتنة، كما أنها ترجع إلى المجتمع الذي تعيش فيه المرأة؛ ففي العديد من المدن بالمملكة لا يكون هناك تركيز على وجه المرأة، كما في المدن الكبيرة، بينما تكون المرأة تحت المجهر في القرى والهجر والمدن الصغيرة. المرأة المنقبة قد تبدو أكثر إثارة ممن كشفت عن وجهها حرية اختيار وأضافت "العنود التمامي" أن كثيراً من علماء الدين في المملكة يؤكدون على غطاء الوجه بموجب فتاوى المذهب الحنبلي الذي لا يجيز كشف الوجه، ولكن هذه الفتاوى لم تقدم الدليل، مشيرة إلى أن للمرأة الحرية في اختيار طريقة حجابها الشرعي طالما لا توجد أي فتوى شرعية مبنية على دليل صريح، مؤكدة على أن كشف المرأة لوجهها أمر طبيعي خارج المملكة؛ فالمرأة بيدها أن تجعل من الغطاء سبباً للفتنه، وبيدها أن تجعل من الحجاب الشرعي سبباً لاحترامها وتوقيرها وعدم ابتذالها. د. سهيلة زين العابدين وأشارت إلى أن الأساس في نظري هو المرأة والتزامها، فما الفائدة أن تغطي وجهها وهي تضع مساحيق تجميل وتزين عينيها بطريقة لافتة، بينما بإمكانها أن تتجنب وسائل الزينة وترتدي الحجاب؛ فكم من امرأة لبست النقاب وفتنت مئات الرجال، وكم من امرأة كشفت وجهها وتحظى بالاحترام والتقدير. د. جمال الطويرقي تفاوت في التطبيق وقالت "سهام علي": إن المجتمع قديماً لم يكن على هذا النحو من التشدد؛ فكانت المرأة تخرج بزي محتشم دون غطاء للوجه في العديد من مناطق المملكة، ثم تأثّرت المناطق بعضها ببعض حتى رأينا الغطاء وارتداء القفازات والجوارب؛ في حين أنها كانت قديماً تخرج للرعي والفلاحة والتجارة وهي محتشمة، ولم تكن تتعرّض إلى النقد الاجتماعي، مشيرة إلى أن السبب يعود لارتباط المجتمع بالبيئة؛ فهناك مدن لا تستنكر كشف وجه المرأة، وأخرى تعتبره مشكلة، مؤكدة على أن كثيراً من السعوديات يتمنين ارتداء الحجاب مع كشف الوجه، ولكنهن يخشين نقد المجتمع، خاصة مجتمع القرى والهجر والمدن الصغيرة التي تعتبر أن كشف الوجه خروج عن الدين!. سوزان المشهدي وسطية واعتدال وأضافت "هناء محمد" أن التوسط والاعتدال هو من ينتصر في جميع مناحي الحياة، والنظرة إلى كشف الوجه من بين المسائل التي سيتقبلها المجتمع تدريجياً؛ فالمواطن ليس بمعزل عن المجتمع، وتطور المجتمعات حوله، كما أن برامج تعزيز الحوار وتلاقي الثقافات والابتعاث وغيرها من البرامج ساعدت على تعزيز مبدأ الوسطية والاعتدال. وأشارت إلى أن المرأة السعودية لا تقل عن غيرها في تطلعها للعمل والإنجاز العلمي والتجاري، وأصبحت تدير مؤتمرات عالمية، وتشارك في مؤتمرات دولية، ولديها تجارة واستثمارات وتعاملات خارجية، وبالتالي هي تكشف الوجه، وتحتشم بأخلاقها قبل زيها، مؤكدة على أن المجتمع السعودي مقبل على انفتاح كبير، ووعي المرأة يعزز ثقتها في نفسها وقدرتها على مواجهة كافة التحديات. تناقض عند السفر وتمنت "عبير الشهراني" أن تعيش حياتها دون أن يصادر أحد حريتها، أو يلزمها بالحجاب والنقاب، مشيرة إلى أنها مبتعثة إلى أمريكا، وتعرف كيف يمكن أن تستفيد من الخبرات التي تراها في هذه الدول، وعندما تعود إلى مدينتها لا تستطيع أن تكشف وجهها، رغم قناعتها أن كشف الوجه أمر خاص بها، ولكنها تخاف من انتقاد المجتمع والإساءة لأسرتها. وقالت:"بمجرد وصولي إلى المملكة أغطي وجهي وأعاني من مضايقات، ولكن عندما أسافر للخارج لم أجد أحداً يراقبني أو يعترض طريقي". وتساءلت "بدرية العمري": لماذا لا يُفرض على الرجل إعفاء لحيته وتقصير ثوبه كما يُفرض النقاب على المرأة، ويكون إجبارياً؟؛ ليعيش الرجل واقعاً غير مقتنع به، وبالتالي يرفضه، ولا ينافق فيه، أو يتناقض معه. تجربة الجيل الأول وقالت "أم مسفر" -سيدة مسنة في السبعينات من عمرها في إحدى قرى مدينة أبها-:"الوضع اليوم تغيّر، وأصبح الناس شكّاكين حول ما يتعلق بالمرأة، وقديما كانت البنت لها قيمتها بحجاب أو من غير حجاب؛ لأن البنات كن محتشمات ومؤدبات، وأهالينا لم يغطونا بالعباءات السود، وإذا ذهبنا للسوق أو قرية بعيدة كنّا نلبس (نطعاً) وهو رداء جلدي يقينا الشمس والمطر، وكانت شعورنا مغطاة بالمسافع أو المناديل، ونشتغل مع أهالينا في المزرعة، ونلتقي مع رجال القرية دون أن نغطي وجوهنا، وكنّا أيضاً نتعامل مع الرجل أخاً وأباً وابناً وجاراً وضيفاً من دون شك أو نوايا سيئة منه أو منّا، وكان الرجال يقدروننا ويحترموننا". مصدر فتنة! وفي سؤال: هل كشف المرأة وجهها حق من حقوقها؟، أجاب "د.عبدالله الصبيح" -عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إن مقتضى هذا السؤال أنه إذا كان من حقها فيجوز لها كشفه أمام الأجانب، ولا يحق لأحد أن ينكر عليها، وقياساً على هذا فيجوز لها أن تكشف ماشاءت من جسمها، وهذا لا يجوز، وفي الشريعة الإسلامية نحن وما عندنا كله لله عز وجل، ونحن عبيد له يأمرنا بما يشاء، قال تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له". وأضاف:"لو قلنا إن شيئاً مماعندنا حق لنا نتصرف فيه بما نشاء من غير اعتبار للشريعة، فمعنى ذلك أن هناك شيء يقع خارج حكم الشريعة وليس لها فيه حكم، وهذا خطأ بيّن؛ فالإسلام دين شامل، وطرح القضية بهذه الكيفية يمثّل تعدياً على الشريعة الإسلامية، وتهويناً لها في قلوب الناس، ونشراً لمفاهيم خاطئة ومغالطات باطلة"، مؤكداً على أن كشف الوجه بهذا الصفة التي تُطرح في الإعلام لم يعرفه العالم الإسلامي إلاّ مع دخول جيوش المستعمر بلاد المسلمين، ولهذا نراه يكثر في البلاد التي هيمن عليها الاستعمار أكثر من غيرها. وأشار إلى أن خلاف الفقهاء في مسألة تغطية الوجه هو خلاف محدود، وجميعهم قالوا يجب على المرأة تغطية وجهها إذا خافت الفتنة، وكشف المرأة الشابة وجهها مصدر فتنة إلاّ إذا كانت المرأة كبيرة في السن أو قبيحة لا تميل إليها النفوس. ضرورة ملحة واعتبرت "د. سهيلة زين العابدين" -عضو جمعية حقوق الإنسان وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- أن غطاء الوجه ساهم في الحد من توسع مشاركة المرأة، وقنّن فرص عملها التي انحصرت في مجالات محددة جداً. وقالت:"كشف الوجه ضرورة ملحة في حالة البيع والشراء إذا ثبت أن البضاعة مغشوشة؛ فكيف استطيع اثبات حقي، وهناك الكثير من الأدلة التي تدلل على أن تغطية الوجه غير واجبة على المرأة، ولبس النقاب غير واجب، ومحرم ارتداؤه وهي محرمة في الحج". وأضافت:"للأسف الشديد الكثير أخضعوا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لموروث فكري وثقافي طبقاً للعادات والتقاليد والأعراف التي توارثوها، وعادات وتقاليد جاهلية لا تمت للإسلام بصلة، وبعضهم يستند على أحاديث موضوعة؛ بالرغم من تعارضها مع نصوص قرآنية"، مبينة أن تغطية الوجه يعني اقصاء المرأة عن المشاركة في الحياة العامة والكثير من الأعمال و المواقع القيادية في الدولة. الأخلاق أهم ويرى الأستاذ "نبيل زارع" أن المرأة التي تكشف وجهها -طالما أنها تمارس حياتها بحشمة وأخلاق وتصرفاتها مثالية- فلا علاقة بين أخلاقها وكشف وجهها؛ فالحكم على المرأة من خلال تصرفاتها وأفعالها. وقال:"المشكلة التي تؤرقنا أن المرأة بكل حالاتها سواءً كشفت أو غطت أو عملت أو لعبت رياضة لم يعد هناك ما يشغلنا إلاّ هذه المرأة؛ لدرجة شعرنا معها أنها اصبحت مشكلة، وهذا قد يؤثر على النشء الذين باتوا يشعرون بحجم مشكلة في المجتمع اسمها المرأة، وكأنها كائن مرفوض، وللأسف بعض الرجال يرفض التعامل مع المرأة بشكل مطلق". ردة فعل المجتمع وأضاف "د.أبو بكر باقادر" أن الغطاء موضع خلاف فقهي، ونوع من التكيف الثقافي بين منطقة وأخرى، ولكن قد يسيء فهم المرأة التي تكشف!، ولكن مع ظهور المرأة لم يعد هناك ما يلفت نظر الرجل، خاصة في المدن الكبرى، حيث توسعت فيها مجالات عمل المرأة، واستطاعت أن تفرض شخصيتها وسلوكها مثل الرجل، بما يقلّل من النظرة لها، أو وضعها في تصور مختلف!. وأشار إلى أن ردة فعل المجتمع ستكون عادية إذا كثر عدد النساء الكاشفات، ولكن الأهم أن يعاقب من يعاكسهن أو يتحرش بهن، لا سيما وأننا مطالبون بغض البصر من الناحية الأخلاقية، واحترام خصوصية الآخرين في الشارع والأماكن العامة، وأن لا يؤذي أي شخص بسبب لبسه من أي طرف ما دام محتشماً، مؤكداً على أن العرف والثقافة السائدة تشير الى أن ظهور الوجه لا يعطي رسائل قد يسيء فهمها من الطرف الآخر. احترام وانفتاح وقالت: "سوزان المشهدي" -كاتبة وأخصائية اجتماعية- بالطبع احترم غطاء الوجه لمن ترغب بتغطية وجهها، ولكني أرفضه رفضاً قاطعاً وواضحاً أثناء التعامل في المؤسسات الخدمية -التي لها صلة مباشرة بخدمة المواطنين والمواطنات كالبنوك والمحاكم بالتحديد-، حيث أثبتت القصص المريعة -جراء عدم التثبت من هوية المرأة- ضياع كثير من حقوقها، وهذا في رأيي أكثر جرماً من رؤية القاضي لصاحبة الشأن؛ للتثبت من هويتها، أو على أقل تقدير توفير امرأة تتولى هذه المهمة، والقصص تخبرنا أيضاً عن تعمد بعض الرجال لبس العباءة وغطاء الوجه في أماكن نسائية خالصة ولأغراض التسول وغيرها. وأضافت أؤمن بأن الوجه هو هوية المواطنات، وهو أداة التعريف بشخصيتها، والمرأة التي لا تفعل أي سلوك خاطئ لا تخشى أن يعرفها الناس في أي مجتمع، وليس معنى كلامي أن التي لا تفضّل كشف وجهها تكون غير ذلك، ولكن لا ينبغي ربط هذا بالدين، ولا بالصلاح والتقوى وغيرها، والدليل كراهية كشف الوجه في الحج والعمرة. وأشارت إلى أن الزمن والثقافة والوعي وزيادة الانفتاح المسؤول؛ سيساهم بشكل جدي وجذري بتغيير المعنى؛ فلا تعد حينئذ الكاشفة لوجهها أنها متسيبها مثلاً، بل سنفهم أنها ضرورة من ضروريات الحياة التي بات غطاء الوجه في بعض المؤسسات يشكّل عائقاً، ويؤدي إلى جرائم أكثر خطورة كضياع الحقوق وغيرها. ثمن كشف الوجه! وأكد "د. جمال الطويرقي" -مستشار نفسي- على أن فكر غطاء الوجه مرتبط بالتنشئة الاجتماعية، متمنياً أن يكون لدى النساء السعوديات مخطط لأخذ حقوقهن، وألا ينشغلن بالغطاء عن أهم حقوقهن التي من أبسطها حريتها؛ فالغطاء مجرد عُرف، وهذا من قديم الأزل، وفي جميع البلاد العربية لحمايتها من الأذى. وقال:"إذا خاضت المرأة تجربة ضد مجتمعها وضد افكاره؛ فإنها ستدفع الثمن غالياً، وهذا يعني أنها إذا تجاوزت هذا العُرف؛ ستواجه هجمة شرسة من المجتمع، وقد يعرقل مسيرتها نحو الأمام، وسينظر لها نظرة قاسية، وسيعتبرونها امرأة مخالفة؛ لأن التطور في مجتمعنا أبطأ من استيعاب البشر.