يقول المثل الصيني «لا تعطني سمكة ولكن علّمني كيف أصطاد..» وفي عمل الخير يمكن أن يقال لا تكتف بالتبرع للمحتاج بقوت يومه.. بل علمه كيف يحصل على قوته بالمران والتعليم وتوفير فرص العمل.. فهذا أعظم أبواب الخير وأجداها تبرع الملياردير الهندي عظيم بريمجي صاحب شركة "ويبرو" للمعلوماتية بمبلغ 2,3 مليار دولار لجمعية خيرية تعنى بمجال التربية. وسبق لبريمجي أن تبرع العام 2010 بملياري دولار الى هذه الجمعية التي تحمل اسم "مؤسسة عظيم بريمجي". وحول بريمجي أسهماً بقيمة 2,3 مليار دولار من شركته الى المؤسسة التي تمول تدريب معلمين هنود وبناء مدارس.. وقد انضم بريمجي الى نادي أصحاب المليارات المحسنين المعروف باسم "غيفينغ بليدج" (تعهد العطاء) الذي أنشأه مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس والمستثمر الاميركي وارن بافيت. هذا الخبر يثير الارتياح في نفوس تتوق للخير، وتتطلع إلى بعض العزاء فيما يصيب عالمنا من كوارث ومحن وفقر وجوع. إلا ان مثل هذا الخبر أيضا يستدعي المقارنة أو المفارقة بين أثريائنا وأثريائهم.. بين مبادرة حتى أثرياء الهند على التعهد بالعطاء الجزل والاحسان الكبير.. وبين انكفاء كثير من أثريائنا على مراكمة ثرواتهم وانطفاء بادرة التعهد بمثل هذا الاحسان الكبير! ليس بريمجي هو الثري الهندي الوحيد التي تعهد بالعطاء الكبير، وإن كان يعد ثالث اثرياء الهند بثروة تقدر بحوالى 16 مليار دولار على ما أظهر تصنيف أكبر الثروات العالمية لمجلة "فوربز" للعام 2012. تلك القائمة التي تشمل أثرياء عرب ومنهم سعوديون، ربما اقتربت او تجاوزت ثرواتهم ثروة بريمجي وسواه من أثرياء العالم. يقول بريجمي "إن أغنى الاغنياء "عليهم المساهمة كثيرا في محاولة ايجاد عالم أفضل لملايين الاشخاص الذين لا يتمتعون بالحظوة ذاتها". إنه يدرك أن الثروة الحظوة - مع شروط الاستعداد والعمل الجاد – هي التي مكنت رجال الأعمال من حيازة المليارات. فالجهد مهما بلغ دون تلك الحظوة أو القدر الذي ساقهم وساق إليهم فرص الكسب والاثراء لم يكن ليحقق لهم ما يرفلون به من ثروات. إنه يدرك جيدا مسؤولية الاثرياء في عالم مسكون بالجوع والخوف ومأسي البشر. وفيما هو يعمل بدافع من شعوره بالمسؤولية الاجتماعية، فهو يقرر ان التعليم الجيد مدخل لإخراج كثير من ابناء الفقراء لرحابة الفرص، وهذا يعني صناعة جديدة للحياة. أتذكر هنا جون هوبكنز، ذلك الامريكي الثري، الذي أتعسه حال السود في ولاية ميرلاند، فرأى أن انتشالهم من حافة الفقر والجهل وانعدام الفرص، يبدأ من تعليم جيد.. فبادر إلى انشاء "جامعة جون هوبكنز"، التي أصبحت من الجامعات المرموقة في الولاياتالمتحدةالامريكية، وتهطل عليها كل عام عوائد أوقاف رصدها لها هوبكنز.. واستمر كثير من الاثرياء والموسرين الأمريكيين في التبرع لتمويل جامعة مميزة تنتج اعظم الابحاث وبراءات الاختراع وتُخرِّج الباحثين المميزين الذين تتحول جهودهم إلى مصادر جديدة للثروة. أما ستانفود الثري الامريكي فلم يكن ليجد أكثر عزاء في وفاة ابنه الوحيد، من أن يسدي لأبناء جيله من الشباب جامعة مميزة اوقف عليها جزءا من اراضيه، وأسس جامعة ستانفود في منطقة مميزة فكانت اشهر الجامعات الامريكية وأميزها في مجالات تخصصية كثيرة. والامثلة أكثر من أن تُعدد في مقال عابر. ولو بحثنا قليلا عن آثار بعض تبرعات الاغنياء في الغرب لوجدنا المستشفيات وملاجئ الايواء والمدارس والجامعات التي لم تكن سوى ثمرة لنزعة "تعهد العطاء" الذي استل في هذا القرن مشعله بيل غيتس ووارن بافيت وغيرهما، من الذين أوقفوا جل ثرواتهم لخدمة الانسان والتخفيف من آلامه ومتاعبه، لأنهم أدركوا أن الحظوة التي وجدوا أنفسهم فيها ليست منحة لهم فقط، ولكنها اختبار حقيقي لقدرتهم على التصرف بتلك الثروات فيما يخدم البشر، الذين لم يحظوا بالفرصة أو القدرة التي تيسرت لأولئك الاثرياء. لقد وجد هؤلاء أن راحة نفوسهم ونمو مشاعرهم الايجابية، لا يتحققان سوى بالانهماك في عمل خير يطال الانسان، وهو يطل على حواف هذه الحياة القصيرة. وليست الاعمال الخيرية الكبرى قصرا على أثرياء الاوروبيين أو الامريكان، فهذا الملياردير الروسي فلاديمير بوتانين، يتعهد برفقة 11 مليارديراً من مختلف أنحاء العالم بالتبرع بنصف ثرواتهم بشكل طوعي، لينضموا بذلك إلى مجموعة من 93 مليارديراً تعهدوا بالتبرع لصالح الأعمال الخيرية بما لا يقل عن 50 % من ثرواتهم، ومن بينهم مايكل بلومبرغ، ديفيد روكفلر، وجورج لوكاس. وما يلفت الانتباه أن معظم هؤلاء الاثرياء لازال اغلبهم في مراحل منتصف العمر من بيل غيتس الى فلاديمير يوتانين. ولذا سنكون مخطئين لو تصورنا ان المتبرعين الكبار ممن يقفون على حافة العمر في المشهد الاخير. لاشك أن بعض الاثرياء الكبار لدينا يحملون وازعا دينيا وحسا إنسانيا ووطنيا صادقا ويحاولون ان يسهموا في خدمة بلادهم وابناء وطنهم، الذي كسبوا فيه ثرواتهم، ونموا فيه اعمالهم، وراكموا فيه ارصدتهم.. إلا أن هؤلاء مهما حرضت الذاكرة على استدعائهم فهم قلة في وسط يكثر فيه الاثرياء وتتراكم فيه الثروات.. وتنحسر فيه الافكار الخلاقة والمشروعات الخيرية الكبرى المثمرة التي تطال قضايا الانسان واحتياجاته لانتشاله من بؤر الفقر والحاجة والمرض وتداعياته. توقفت أبحث عن أثريائنا المعلوم منهم والمجهول، والبعيدين عن أعين فوربز أكثر من أولئك الذين يمكن رصد ثرواتهم.. تساءلت ألا يدرك هؤلاء المعنى الذي توقف عنده بيل غيتس الامريكي وعظيم بريمجي الهندي وفلاديمير بوتانين الروسي؟ هل كان الكرم والعطاء والبذل العربي اسطورة من اساطير الزمن القديم. حتى توهمنا اننا أكثر الشعوب كرما وعطاء وجبرا للعثرات؟ هل علينا ان تكتشف ان الهندي عظيم بريمجي وهو يتبرع خلال ثلاثة أعوام بأكثر من اربعة مليارات دولار في مشروعات خيرية تعول على التربية والتعليم الجيد كجسر ينقذ كثيرين من آفة العطالة والفقر.. انما تجاوز كل ما تبرع به الاثرياء السعوديون في أعمال مشابهة في بلدهم طيلة عقود؟ وقد يقول قائل ليتهم فقط يترفقون بنا، فلا يبرعون بين الحين والاخر في احتكار احتياجاتنا ورفع الاسعار وجني المزيد على حساب دخولنا المتواضعة. ليت اثرياء الاراضي والذين نجزم بانهم اصحاب الثروات الأكبر في بلادنا يدركون انهم انما يحتكرون ويضاربون في تراب لا ينتج عملا ولا يرقي محتاجا ولا يعلم جاهلا.. بل يزيد المأساة في حلم الحصول على قطعة ارض صغيرة بلغ سعرها ما يعجز عنه متوسطو الحال ناهيك عن محدودي الدخل والفرص. ليتهم فقط يدركون ان كل مليار يضيفونه لأرصدتهم انما جاء على حساب مئات الآلاف الذين تدفعهم الحاجة إلى الاستدانة بحثا عن مأوى لأبنائهم. وليت المتبرعين منهم يتذكرون دائما، أن الوقف الخيري هو من اعظم المشروعات التي استبق إليها المسلمون الاوائل، لتبقى تدفقا ورافدا للخير في حياتهم وبعد مماتهم.. حيث تتحول إلى مؤسسات خيرية تعمل وفق قاعدة الاستثمار لدعم أعمال الخير. وليت المتبرعين منهم يدركون ان أبواب الخير واسعة وليست قصرا على بناء المساجد، أو تخصيص جائزة لطالب او باحث..أو تقديم بعض الاحسان في مواسم الخير.. فالحياة بتعقيداتها وتراكم احتياجاتها، تجعل الناس تتطلع إلى مشفى خيري ومدرسة خيرية ومعهد تدريب مميز وجامعة تخرج مؤهلين يحظون بفرصة جديدة لصناعة الحياة. يقول المثل الصيني "لا تعطني سمكة ولكن علّمني كيف أصطاد.." وفي عمل الخير يمكن أن يقال لا تكتف بالتبرع للمحتاج بقوت يومه.. بل علّمه كيف يحصل على قوته بالمران والتعليم وتوفير فرص العمل.. فهذا أعظم أبواب الخير وأجداها..