اكتب التاريخ على مهل، كأنك تعيد تركيب فسيفساء الحكاية في طبق مكسور ببطء، ولا تستمع إلى من يحاولون دفعك لتنتهي من مهمتك الصعبة، فالتاريخ ما فاتك، فلست معنياً بالمستقبل الذي يجيء راكباً بغلة التقنية. تأكد أن لديك ما يكفي من الحبر السائل وأقلام الخط المدببة من القصب الفارسي المنقوعة في ماء الورد، فالتاريخ لن ينتهي كما ادعى فوكوياما مرة في مقالته (نهاية التاريخ). حين تمد أشرعة الكتابة أطل رسم (بسم الله الرحمن الرحيم)، فلا تضغط كثيراً وأنت ترسم باء البداية في (بسم) ولا تستعجل في الانتقال إلى ألف (الرحيم) حتى تستكمل نون (الرحمن) استدارتها ببطء كشمس في طريقها إلى المغيب. اختر ورقاً أصفر لتصبح يدك غيمة تكتب على دفتر حقل قمح ذهبي. ولتكن لغتك أقل شاعرية من قصيدة في وصف الربيع، وأكثر نثرية من حركة الرمال. دع وصفك للأشياء يتداعى بعفوية مبتعداً بذلك عن أصول الكتابة الصحفية والأكاديمية حيث تولد التفاصيل من عقدة مكثفة في أول الكلام ككرة من الخيوط القطنية المتشابكة. حافظ على حرارة العاطفة في كل حرف تكتبه، لذلك لا تلهث وراء كل حدث يجري أمامك مثل ظبي، كن مثل النمر الذي ينتظر حتى يختار فرسيته متخفياً بين الحشائش والأشجار. إن كان الحدث سياسياً فانظر إلى الناس الذين يسيرون في السكك الضيقة في وسط المدينة، هل ما زالوا يبتسمون للغرباء الذين أضاعوا الطريق وهم يبحثون عن أسماء الشوارع بلا جدوى؟ هل يخرج الناس من أعمالهم متكاسلين في العودة إلى منازلهم كما هي عادتهم في كل بلد؟ هل يقرأ الباعة الصحف أكثر من الحديث مع زبائنهم؟ وإن كان الحدث اجتماعياً، هل ينفض الآباء النوم عن أكتافهم في الصباح الباكر ليأخذوا أولادهم إلى المدرسة؟ ليكن حبرك كحل يوسع حدق الحقيقة دون أن يغير لون عينيها. ودع كل شيء يمر حولك يتكلم عن نفسه: بكاء النساء يشد نياط القلب ويقفز من الصفحة كالمفرقعات، مآذن المساجد تصدح قبل أن تصل إلى وصفها في الصفحة التالية، وصرير المدرعات تطأ جذوع النخيل وأنت تقفل مدونتك السميكة. وإذا انتهى حبرك، فابتسم ليديك المرتعشتين من التعب واكتب اسمك بخط صغير في آخر الصفحة وقل الحمد لله رب العالمين. *** الخيل هي أغنيات الروح تجري في قوائمها وتصعد في الصهيل مدائناً طينية الإيقاع لونها الغمام قبيل كل كريهة ومضت يحنيهادم وقصائد رومية لأبي فراس: حمامةٌ فحمامتان إلى ابن عمي والمكان صليلُ حتى إذا امتلأ الغبار من الفوارسِ لم يعد في السيف ثَمَّ هديلُ