جرس المنبه الذي يعرف ثقل دمه، لايكفُّ عن الرنين، يتحايل على النهوض، ياخذه التفكير بعيدًا في وفاء الجرس ولؤمه، يخشى أن يفوته زمن العرض حين يكف الجرس عن التقريع، والركل.. يلبس سريعًا يتحرك إلى الشارع حيث سائقو التاكسي المختلفين عن أولئك المتربصين عند باب الفندق، يقف أحدهم، يتفقان على الوجهة، إلى عروض المهرجان المسرحي بهذه المدينة، التي تعيش على صدى الربيع العربي، في مظاهرات تخرج من هنا وهناك، وعلى فترات متباعدة ومتقاربة، يخشى الليلة أن تحول إحداها عن وصوله إلى العرض.. لديه إصرار على حضور العرض الأول، العرض الليلة، من إخراج أحمد الاحمري، ذلك الذي لم يكن قد شهد له عرضًا حيًّا، ولم يسبق له أن وقف أمام خشبته، لديه إحساس أن مشاهدته العيانية لديكورات، واختيارات الأحمري ورؤيته للكواليس، ومصادر حركة الضوء، وقراءة ذلك في الأعين، وتعبيرات الجمهور: صمتًا، ضحكًا، همسًا، تصفيقا، اندهاشًا، مشاهدة كل ذلك يجعله قريبًا من سر تلك الدهشة التي أضحت تلازمه حين يذكر اسم الأحمري، بين حالة القلق من اجتياز الشوارع القريبة من العرض المكتظة بالشبان المتظاهرين، وبين فرحة بقرب اللحظة التي بلغت بتعلقه بها حد الاستثناء في علاقته بالمسرح. يستذكر ذلك الشعور الذي انتابه، حين حدثه صديقه عن ذلك الإخراج الاستثنائي، لمسرحية عنوانها "سفر الهوامش" ، ثم تنامي تلك الدهشة حين شاهدا عرضًا مسجلًا. أبداً هذا عمل مواز، هذا اشتغال جديد على تأويل النص، النص لابد أن يؤوله المخرج.. لابد.. الأحمري.. الأحمري من يفعل ذلك.. فجأة انبثق الصوت جليًا، إنه الأحمري!! يقف صاحب التاكسي، يعزم عليه بالأيمان وجيرة الله إلا أن يدخل معه "الكوفي القريب".. جاء في ذهنه أن يفسر هذا الكلام الغريب الذي يسمعه.. ربما لذلك علاقة بعمله الإضافي.. يستجيب تحت ضغط انتظار فتح الشارع القريب من مكان العرض، على عجل تأتي اختياراتهما من "الكوفي"، يسأله: من الأحمري؟؟.. هل له علاقة بالتغيير الذي يتردد على الأفواه، مارأيه في شراكة السلطة وتعدديتها..؟؟ يندهش من الأسئلة الغريبة، يقول له: أخي أنا سرح ذهني في المسرح أريد أن ألحق بالعرض، أرجوك!! سحنة المتحلقين على طاولات المقهى تشير إلى اختلاف البلدان التي ينسبون إليها: أدرك منها سحنًا هندية، إيطالية، بلغارية، صينية، جزائرية، خليجية، مصرية... سرح في تأملاته في سحن الجالسين، ندّت إليه بعض أحاديثهم، سمع كلامًا عن العروض، عن تأجيل العرض الأول ساعتين عن موعده.. رأى طاولة يقتعدها أربعة، خاتلهم التأمل في السحنات والحركات، صاحب السيجار الذي لايسقط، صاحب الحركات التي شطبت الإيماء من زمن بعيد برأس لابد أن يتحرك في جميع الجهات، صاحب الابتسامة المسرحية، صاحب الجلسة الرزينة، والهدوء المتأمل.. صرخ في داخله "ياإلهي .. كأنها الأسماء التي وصف صديقي، لا أصدق!! إنهم هم: الأول فهد رده، عن يمينه الأحمري، المقابل على يساره: سامي الزهراني، أما الذي ينظر إلينا ويعود إليهم مبتسمًا فهو: مساعد الزهراني، دون أية مقدمات نقد صاحب التاكسي أجره، ودلف إليهم مصافحًا، ناطقًا باسم كل واحد يصافحه، أهلًا أهلًا أصدقائي.. تبادلوا النظرات المتسائلة: من هذا؟ أين قابلناه؟ كيف عرفنا؟ لم ينتظروا الإجابات، حركاته، أسئلته، إشارات تعبيره فعلت فعلها في أن يندمج معهم: صديقي فهد: صاحب النص المتجدد المتمرد على النمط صديقي الأحمري: صاحب النص الموازي، المؤول بامتياز صديقي سامي: يمثل النص بالخروج عن النص صديقي مساعد: المشكل لكل نص جسدًا بعد الاندماج في الجلسة، انفرد بالحديث مع فهد، كان يسأل بدهشة عن الأحمري، يجسد انطباعه باشتغالاته، ينصت فهد، يستمع إليه وكأنه هو الذي يتحدث عن الأحمري - كما قال فيما بعد - روى فهد كلامه: عن المسافة بين تأويل فهد وتأويل الأحمري، قال لفهد: أنت مؤول لعلاقة العالم بما تشكله في النص، والأحمري يشتغل على تأويل نصك، وإشباع ذلك النص بتأويله المدهش، صديقي فهد: شغلني الأحمري بهذه القدرة التأويلية، المبنية على عمق الدهشة، وتجدد استقباله للنص، طويت هذه المسافات إلى هنا لأحس بذلك الحبل الذي يتقلب في لحظات بين القيد والمشنقة، وتلك النافذة التي تنفتح على الصفاء، والبحث عن الانسجام ثم تنغلق وهي مفتوحة على الضجر وفراغ الحياة.. حبيبي فهد: ضج بي عالم الأحمري، حباله، كراسيه، نوافذه، بياضه، سواده، ضوؤه ظلامه، ضحكه، غضبه، ابتسامته، تقطبه.. قام فهد ليجدد علبة سجائره ممتلئًا بحديث الصديق الطارئ. عاد لم يجده على الطاولة، هناك شخص بالملامح ذاتها، صامت، لم يشأ أن يستنطقه.. لا.. ليس هو! هناك شخص على حال من الضحك المستمر على الطاولة الأخرى.. يقول: سامي انه هو!! ويطلق على ذلك!! ذهب إليه حاول بأسلوبه المعهود استدراجه.. لم يجد حلا لتبادل الحديث.. خيمت حالة بين السعادة من حديثه، والانتشاء به، وبين الوجوم من فقد ذلك التجسد المخصوص بإنسان كان يجلس معهم على الطاولة ويبادلهم الحديث... بدأ العرض المسرحي "المحطة لاتغادر"، والأنظار معلقة بالجمهور بحثًا عن ذلك الصديق.. حتى إن الأحمري استشاط غضبًا حين خرجت الإضاءة عن النص بحثًا عن ذلك المتخفي.. بعد ختام العرض، وتفرق جلسة الجمهور إلى أحاديث جانبية يستدعي سامي فهد لسماع حديث اثنين كانا يتحدثان بالحديث ذاته ليتأكد فهد إن كان صاحبهما أحدهما.. لا.. ليس هو. ينتقل إلى ثلاثة، ليس بينهم، إلى حلقات أخرى.. الحديث هو.. هو.. الصديق غير موجود.. فجأة يصرخ سامي وجدتها سأخرج نصًا عن الأحمري بهذه الحال: حبيبي أحمد أنت المسافر بنا في كثير ممن شاهد عروضك جعلتهم حديثا يتفق على إدهاشك لهم ويفترق على سرها. كلهم شخص صديقنا الذي هبط علينا قبل العرض عرفنا ونحن له منكرون حدثنا بأكثر مما تستوعبه ذاكرة أي واحد فينا عنك لا نراه لأنه خلاصة فكر وروح أصدقائك ومن عرفت ومن تلقى عروضك هنا وهناك اليوم أو غدا. * بمناسبة تكريم المخرج أحمد الأحمري بنادي الطائف الأدبي