يشرعُ الشاعر في كتابة قصيدته وهو لا يعرف على وجه التحديد متى تنتهي ولا كيف ستنتهي، فإبداع القصيدة عملية ممتعة ومُرهقة وغامضة يحلو للبعض تشبيهها في كثير من جوانبها بعملية الولادة التي وإن أمكن تحديد موعدها إلا أنه يصعب التنبؤ بما ستتمخض عنه من نتائج، فالمولود القادم مجهول الجنس والشكل والملامح ولا يُعلم على المدى القريب ما إذا كان سيخرج صحيحاً وقوياً أم سيولد سقيماً وهزيلاً، وكذلك لا يُعلم على المدى البعيد عن مُستقبله وعن إمكانية تحقيقه للنتائج التي يرجوها منه والداه أو فشله في تحقيقها ..؟! عندما تولد القصيدة ويكتمل بناؤها تتحقق فرحة الشاعر الأولى برؤية عمله الذي اجتهد وسهر عليه طويلاً في صورته النهائية، ثم تتبقى له فرحة قد يشهد تحققها سريعاً أي خلال فترة حياته وهو ما يصبو إليه كل شاعر وقد يحدث الأمر الذي يخافه كل مُبدع وهو ألا تُحقق القصيدة أياً من أهدافها المرجوة وتصبح في حكم القصائد الميتة. مع أن أهداف الشعراء من كتابة الشعر تتباين تبايناً كبيراً إلا أن هُناك هدفاً ينشده كثير من الشعراء المبدعين ويرونه كافياً لتحقُق الفرحة الثانية والكبرى ويتجسد في قدرة القصيدة على ملامسة مشاعر المتلقين وبالتالي إعجابهم بها وحفظها وتداولها على نطاق واسع. من الشواهد الجميلة التي تُؤكد على حجم السعادة التي يبلغها الشاعر المبدع حين تجد قصيدته الحد الأدنى من التلقي وهو حفظها وترديدها ما رواه الأصفهاني في (الأغاني) من أن الشاعر نُصيب بن رباح -الذي كان عبداً أسود رفعه الشعر- خرج برفقة الشعراء الأحوص وكُثير فمروا بامرأة استقبلتهم أحسن استقبال وكانت تطلب من جاريتها أن تتغنى بقصائد محددة من أشعار نُصيب، وحين تنتهي الجارية من غنائها تعاود مولاتها طلب قصائد أخرى له إلى أن انتهت، حينها عبّر زملاؤه الشعراء عن سخطهم عليها وعبّر نُصيب عن سعادته البالغة بما رآه قائلاً: "والله لقد زُهيتُ بما سمعتُ زهواً خُيّل إليّ أني من قُريش، وأن الخلافة لي"..! ويذكر غازي القصيبي رحمه الله في (بيت) موقفاً مُقارباً كان بطله الشاعر العربي الكبير نزار قباني، يقول القصيبي: ذهبت أزور نزار رحمه الله وكان خارجاً لتوه من المستشفى بعد غيبوبة استمرت بضع أسابيع. كان مُنهكاً جسدياً حزيناً لأنه لم يعد قادراً على كتابة الشعر. قال لي إن نهاية الشعر نذير مؤكد بانتهاء الحياة نفسها (...) خرج يودعني وهو يمشي متوكئاً على عكّازة طبية. توقفت وقلت "ارمِ عكازتيك!". أدرك على الفور أني أشير إلى قصيدته الجميلة في طه حسين وتهللت أسارير وجهه. بدأتُ أقرأ الأبيات الأولى من القصيدة. كنت أقرأ وأنا أشهد معجزة طبية. عاد اللون الوردي إلى الخدين الشاحبين. سقط العكاز. ذهبت التجاعيد عن الوجه الذي رجع بغتة إلى الشباب". ويُضيف القصيبي في نهاية هذا الموقف الذي أنقله بإيجاز: "قد يكون للشعر تأثير السحر في نفوس المستمعين إلا أن تأثيره في نفس قائله أعظم من تأثير السحر بكثير!". وأجزم أن القصيبي لم يبالغ أبداً في الحديث عن التأثير السحري لرؤية الشاعر حصيلة إنتاجه الشعري مُتمثلة في أبسط وأبهى صورها وهي حفظ الناس لقصائده وأبياته، وقد قابلت شعراء كُثراً يتحدثون بفرح ونشوة غامرة عن اللحظات الرائعة التي يقابلون فيه من يحفظ قصائدهم أو ينشرها لهم لمجرد أنها إبداع مُميز يستحق الحفظ أو النشر. أخيراً يقول عبدالرزاق الذيابي: دايم يحرضني هطولك وطولك على التمادي فالكتابه والإبداع أنتي سماءٍ ثامنة من يطولك؟ حرفي بحسنك تخطفينه من القاع!