سخرت الشاعرة والناقدة أشجان هندي من مقولة زمن الفكر؛ التي رددها البعض، استناداً إلى الكتب الأكثر مبيعاً، وقالت إن الغريب في الأمر أن لا فكر في زمن الفكر، وإلا لما حدث ويحدث كل ما نراه الآن من تخريب ودمار وعدائية وتشبّث بالباطل وعدم اكتراث بالمصلحة العامة وسوء تقدير لحجم الخسارات. وأوضحت أشجان هندي في حوار مع «الحياة» إن أمسياتها جميعها وبلا استثناء صنعت الفرق، مستدركة أن أمسيتها في لندن عام 2001 وحضرها الراحل غازي القصيبي كانت مختلفة، ولفتت إلى أنها شعرت معها للمرة الاولى بمذاق فرحة أن يقدّمك صرحاً ثقافياً يخص وطنك في «الخارج» إلى جمهور الخارج. إلى تفاصيل الحوار: لديك 3 دواوين شعرية في عناوينها الثلاثة يتكرر المطر وأجواؤه من غيوم ونكهات وروائح.. هل هو الجدب أو الظمأ يستحضر المطر والغيم دائماً؟ - بل هي رطوبة تراب الأزقة الحنونة في مدينة جدة القديمة عندما يبللها المطر القليل فتختلط رائحة الأرض بنكهة روائح خشب الرواشين وبلذعة غرائبيّة لروائح بهارات تنبعث من زقاق العطّارين... لحبات المطر واختلاطها بطين الأرض رائحة خاصة أحتفظ بها في ذاكرتي منذ الطفولة، رائحة لم تتغير حتى الآن؛ تعشقها كل حواسي وتحتفي كلما هطل المطر. أنت واحدة من الشاعرات القليلات التي تولي اللغة والرؤية والإيقاع عناية كبيرة، الإيقاع ليس الوزن، إنما روح القصيدة التي تأخذ بالجديد، مثلما تبقى متمسكة بأصالتها، ما تعليقك؟ - اللغة والإيقاع جناحان توأمان تعمل قصيدتي أن تُبقي عليهما في حالة توازن لحظة التحليق العالي داخل النص. الشعر خيال مُجنّح كلما حلّق وابتعد اقترب النص من الشعرية، والشعر لغة فيها من تمتمات السحر ما يكسو القصيدة بدهشة تحقُق الفعل السحري وتجلّيه آخذاً بحواس المتلقي لحظة الانبهار بقدرة الحروف والكلمات على خلق حال من التماهي مع السحر الحلال، والإيقاع طرب ونغمات تأتي فيتم تمام تأثير اللغة في المتلقي.. أما الرؤية فهي روح القصيدة، ولا قصيدة من دون روح. الشعر عندي هو كل ذلك. ملمح لا يغيب عن بال المتلقي وهو يطالع قصائدك، أنه يمكن أحياناً أن يتعامل مع شعرك بعيداً عن الذات التي كتبته، بمعزل عن التصنيف، هل هو شعر رجالي أم نسائي، إذ نكون أمام شعر خالص يتوجه إلى قرائه متجرداً من كل هوية ضيقة؟ - نعم يمكن «أحياناً» كما تفضلت، وأحياناً أخرى تعترف قصيدتي من أول قراءة لها أن من كتبتها أنثى. لا يشغلني هذا التصنيف، ولا أتعمّد أن أكتب قصيدتي بروح الأنثى، ولكني أصر على أن أكتبها بروح الشاعرة التي تنتمي في نهاية الأمر إلى الجنس البشري بشقيه المتكاملين: ذكر وأنثى. شيء آخر: أحياناً يحدد موضوع القصيدة هوية من تكتبها أو يكتبها؛ أما حين تلامس القصيدة موضوعاً إنسانياً يمس قطبي الحياة «المرأة والرجل» على حد سواء فإن لغتها تتجرد من بصمة الهوية الضيقة منطلقة نحو فضاء إنساني أرحب.. لا أتعمد تفصيل لغة قصيدتي وفقاً لمعايير مسبقة وصارمة يمليها عليّ «الجندر» الذي يتوهم البعض أنه يجب أن يحضر «مُسبقاً» محدداً النوع و«الاسم والسن والعنوان» لكاتبة أو كاتب القصيدة!!...أتصور أن هذا الأمر يتعلق بوزارة التجارة وتحديداً بلجنة المواصفات والمقاييس أكثر من علاقته بالشعر وبلحظة الكتابة. على قلة الشاعرات الحقيقيات لمن تقرئين منهن، أو مع من تشعرين بوشيجة وآصرة روحية؟ أقرأ للجميع ومن دون استثناء، وأحتفي بكل نص جميل وكأنه لي؛ فالاحتفاء بالنصوص الجميلة هو احتفاء بالشعر والجمال في المقام الأول. لا أحب التسمية عادة ولكن دعني أقول إن الشاعرة الكويتية سعدية مفرّح شاعرة مُبدعة تكتب قصيدة آسرة ومُبهرة، وهي قبل ذلك إنسانة رائعة وصديقة قربية جداً من الروح، على رغم أننا لم نلتقِ شخصياً حتى الآن.. تخيّل!.. أيضاً الشاعرة لطيفة قاري تكتب قصيدة جميلة ومن نوع خاص.. شاركت في أمسيات عدة داخل وخارج المملكة وحظيت بإشادات من شخصيات رفيعة.. أي الأمسيات صنعت الفرق لأشجان؟ - جميعها وبلا استثناء صنعت الفرق. كل أمسية شاركت فيها في الداخل أو الخارج تعلمت منها شيئاً جديداً وأضافت إليّ بالتأكيد، ولكن لعلّ أمسيتي في الملحقية الثقافية السعودية في لندن عام 2001 والتي حضرها الدكتور غازي القصيبي رحمه الله كانت من الأمسيات التي شعرت معها «للمرة الأولى» بمذاق فرحة أن يقدّمك صرحاً ثقافياً يخص «وطنك» «في الخارج» إلى «جمهور الخارج» ، يقدمك وهو فخور بك يرعى خطاك ويُباركها. هذا يشبه في تأثيره أن تقدمك أمك إلى ضيوفها قائلة: هذا ابني أو هذه ابنتي وأنا فخورة بها. في مثل هذه الحالة تأتي فرحتك مُضاعفة؛ فلكل ما وضعته هنا بين أقواس تأثيره الذي يصنع الفرق. تلا هذا النوع من الأمسيات أمسيتان خارجيتان فقط شاركت فيها مع وزارة الثقافة والإعلام في الجزائر والإسكندرية، وأمسيات عدّة شاركت فيها مع وزارة التعليم العالي في فرانكفورت، والقاهرة، وبيروت، والخرطوم، وأخيراً في الدارالبيضاء. هل صحيح أن الشعر لم يعد ديوان العرب وأن الزمن هو زمن الرواية والسرد، فيما يقول آخرون إنه زمن الفكر بحسب القياس الشرائي في المعارض الدولية الأخيرة للكتب في الوطن العربي وبالذات التي أقيمت في السعودية؟ - وماذا عمّن يقولون إنه زمن السياسة والحرب والثورات؟ ومن يقولون إنه زمن القبضة الاقتصادية الفولاذية التي شغلت المنتفعين من جورها «على خلق الله» بزيادة أرصدتهم من الأوراق الخضراء والحمراء وما تبقى من ألوان؟ وماذا أيضاً عمّن يقولون إنه زمن الإعلام وسطوته وتحكّمه وقدرته حتى على إشعال الحروب وإخمادها؟ «الشعر لم يعد ديوان العرب» لا أعلم لماذا نتحسس من هذه المقولة؟ هذا واقع له أسبابه وظروفه ومواضعاته التاريخية والسياسية والاجتماعية وغيرها وليس في هذا أي انتقاص من شأن الشعر؛ فهذا يعني أن الدور الذي يقوم به الشعر قد تغيّر.. لا أكثر. ولكن هذا لا يعني في الوقت ذاته أن الرواية أصبحت ديوان العرب! وهذا أيضاً ليس انتقاصاً من الرواية كجنس أدبي، ولكن ليس لنا أن نستعير مقولة نشأت في زمن معيّن ولأسباب وظروف معيّنة وصاحبت جنساً أدبياً بذاته ثم نطلقها اليوم هكذا وبكل سهولة على جنس أدبي آخر. نحن هنا نأخذ بظاهر المعنى فقط. عموماً الحديث حول هذا يطول. الغريب اليوم أن هناك من يقول إن الشعر «كلام فاضي» وانشغال بوهم لا طائل من ورائه! ولا أعلم ما المقصود بهذا «الطائل» الذي يجب أن يحققه الشعر، هل هو مادي أو تحريضي! أو هو ما تحققه بعض الكتابات اليوم من إرساء أو إلغاء لمفاهيم وأفكار؛ منها ما ساد وباد ولم نعد بحاجته، ومنها ما يُراد له من جهة أخرى أن يسود اليوم!؟ لن أبرّئ الشعر وحده بل سأبرئ الأدب كله من أن يكون أداةً في يد أي جهة. أما لو استندنا إلى إحصاءات الشراء وافترضنا أنه زمن الفكر؛ فالغريب في الأمر أن لا فكر في زمن الفكر و إلا لما حدث ويحدث كل ما نراه الآن من تخريب ودمار وعدائية وتشبّث بالباطل وعدم اكتراث بالمصلحة العامة وسوء تقدير لحجم الخسارات. عن الشعر تحديداً سأقول إن الرواية اليوم تغلب «بالكثرة»، فالمدهش الآن عدد الروايات التي تصدر كل يوم! أخشى أن فهم البعض للرواية على أنها مجرد قصص وأحاديث وكشف لبعض ما تستره الجدران قد أغراهم بكتابتها! من جهة أخرى، حافظ الشعر على حماه، وبقيت له جدرانه التي يفتضح بسهولة كل من حاول تسلقها؛ لا أقول إنه لم يكن هناك محاولات عابثة داخل الحرم الشعري، ولكن تلك المحاولات لم تحدد خريطة طريقها، ولم تصل إلى ذائقة المتلقي، على رغم كثرة المنظّرين لها، وهذا ما سيحدث لاحقاً مع كل هذا الكم المتزايد من الروايات. قد تقول: وهل يكتب المبدع للتلقي؟ سأقول لك كل مبدع وكل مثقف بل كل «مُرسِل» شاء ذلك أو لم يشأ يكتب للتلقي ولو أراد تغييب المتلقي كعنصر مهم من عناصر عملية «الإيصال» لاحتفظ بكل ما يكتب في درج خاص بعيداً تماماً عن النشر، أما أن ينشر ثم يقول أنا لا أكتب للمتلقي؛ فهذا أمر مُحيّر فعلاً! ببساطة إن كنت لا تكتب إلا لنفسك فلماذا تنشر إذاً؟ أظنه زمن الكلام وتفريغ الشحنات التي راكمها الزمن، والأخرى المكبوتة التي يكتشف من خلالها من يهمه الأمر ما يدور في دواخلنا ومن حولنا؟! الكلام الآن هو سيد أجناس الأدب وغير الأدب في ما يبدو! لك دراسة نقدية صدرت عن نادي الرياض الأدبي «توظيف التراث في الشعر السعودي المعاصر»، لكن حضورك في هذا المضمار عبر وسائل الإعلام والمنابر الثقافية غير بارز؟ لماذا؟ - من قسّم جسمه «في جسومٍ كثيرةٍ» من الشعراء، وتزاحمَ بين الشعر والنقد خبا لديه الأول والشواهد موجودة. في هذا الأمر أرى أن بعض النقاد أكثر ذكاء من بعض الشعراء؛ فعدد من النقاد يراودهم الشعر ولكنهم ينكرونه ويخبّئونه حتى لا يطغى على حسهم النقدي ولا يؤثر فيه فلماذا لا نسألهم عن قصائدهم وأين هي؟ أمّا من لم يُخبّئها منهم فكتب شعره كمُنظّر ومُفكّر لا كشاعر، والشواهد أيضاً موجودة. النقد وأدواته من بحث وتحليل قد يفسد تجليّات الشعر حين يأخذ من وقت وجهد ومناخ كتابة القصيدة وآليّة ومستلزمات اختمارها داخل الروح الشاعرة ولكنه لا يفسد الشاعر «كإنسان» بل يوسع مداركه ويصقل تجربته ويسهم في تطويرها. في ما يخصني: أنا دارسة للأدب ومشتغلة بتدريسه؛ بمعنى أن البحث والنقد والتحليل يدخل في صلب دراستي وعملي ويشغلني ويأخذ حيزاً من وقتي وجهدي.. لا أتحكّم في الاشتغال به، ولكني أتحكّم في ظهوره، بعكس الشعر الذي أطلق له العنان في الظهور من دون قيد؛ فالشعر عصيّ لا يقبل الحصار أو المهادنة. من جهة أخرى: لماذا نقول عادةً عن الشاعر إن كان ناقداً: الشاعر الناقد فلان، ولكننا لا نقول مثلاً: الناقد الشاعر فلان؟! الشعر «لدى الشعراء» يأبى إلا أن يأتي أولاً! والشاعر لا يختار أن يكون شاعراً؛ فليس في الشعر اختيار. تستطيع أن تكون شاعراً وتعمل في مجالات البحث العلمي والنقد وغيره، ولكنك لا تستطيع أن تكون باحثاً وناقداً وغيره وتعمل في «مجال كتابة الشعر» !... في المحصلة: لا شيء أفضل من شيء، و لكن الشعر أكبر «غيور» عرفته على وجه الأرض! وفي المحصلة أيضاً: أني حتى عندما أكتب موضوعاً في مجال النقد يذيّلونه بلقب «شاعرة سعودية» مع يقينهم الكامل بأن المكتوب «نقد» وليس شعراً! يحدث هذا في بعض الصحف!