هامت الناس على وجهها في الطرقات تتحدث مع نفسها وتضحك وحدها، في عزلة عن العالم الحقيقي من حولها، في كل وقت وفي كل مكان، حتى انشغل الناس عن خالقهم، وانشغلوا عن واجبات عليهم وحقوق ينتظر الناس منهم أداءها، فتركوا بعضها وأجلوا اكثرها، كل هذا لصالح مايسمى بالهواتف الذكية، فإن كان من ذكاء حقيقي لها فهو في قدرتها على سرقتنا من انفسنا واوقاتنا، وعن الناس من حولنا.. كنتُ في احد الاسواق قبل ايام فما راعني الا سقوط إحدى الشابات من فوق الدرج الرخامي ليتفتت جوالها الذي كانت ملتهية بالكتابة فيه عما حولها وهي تقبل على الدرج دون ان تنتبه له فتهاوت بشكل مرعب.. وفي احدى الاحصائيات البريطانية عن حوادث السير التي وقعت في العام قبل المنصرم وجدوا ان السبب الاول في تصادم السيارات هو الالتهاء بالجوال خلال القيادة، وحلت المسكرات في المرتبة الثانية..!! هل يعقل ان يطيش عقل الانسان بهذه التقنية لدرجة الهوس؟! فكم من طبخ احترق على النار، وكم من طفل قد بكى من طفح الحفاظ، وكم من زوج مل عشرة زوجته التي لا تنظر الا الى شاشة الجوال، ولا تتحدث الا معها ولا تضحك الا بها، وكم زوجة طاش عقلها من انشغال زوجها عنها بهذا الجهاز الذي لا وقت له ولا نهاية له، امام الطعام وفي جلسة العائلة، وقبيل اغماض عينيه للنوم، حتى الاطفال ضاعوا من حولنا ففقدوا الموجه والمعلم والمربي والناصح لأن الوقت ضاق والاعصاب تلفت، وماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه..!! حتى على المستوى النفسي، ارهقت الناس وتعبت اعصابهم من اللحاق اللاهث خلف كل جديد، ووراء كل تقنية، وضاعت ساعات الهدوء والاستقرار والطمأنينة، وفقد الناس نومهم الهانئ، وترك الناس الاجتماعات واللقاءات الاسرية وفضلوا الخلوة والعزلة بواقع افتراضي ربما كان صديقا وهميا صنعته صدفة التواصل الاجتماعي الاكتروني، وربما دفن نفسه في لعبة يمارسها مع شخص من البرازيل او شاذ من الالمان او منحرف من اليابان او إرهابي يمقت الامن والامان، ضاق الوقت كثيرا عن العلوم النافعة، والخبرات المفيدة، وأصبحت حياة الانسان اقرب الى التسلية والكسل والبلادة، فلا صنعة يتقنها، ولا حرفة يمتهنها، ولا هواية يمارسها، حتى الرياضة التي كانت صحة وهواية وتسلية اضطر الشباب الى تركها، فلماذا يذهب للجري فيضيع على نفسه دردشة فارغة مع رجل تافه او شاتنق مع خدينة تقطع وقتها ودينها، او لعبة لا تنتهي الا وتأتي لعبة جديدة فيبدأ التنافس من جديد، حتى يخرجَ لنا جيل منطمس الهوية لا انتماء له ولا وطنية ولا بقية له من دين او إثارة من علم اصيل، هذا إن بقي لهم اعين يبصرون بها فعيادات العيون غاصة بشباب كالزهور جفت اعينهم وذهبت قوة الابصار لديهم بسبب التسمر امام شاشات صغيرة لا يطرف لهم فيها جفن، وعيادات العمود الفقري والروماتيزم تزدحم بأمراض جديدة بسبب التقوقع في الاماكن وعدم الحركة انشغالاً بما في ايديهم، وامراض اخرى في مفاصل اليد والابهام استجدت بسبب استخدامها بطرق غير صحيحة، وأمراض اخرى تتعلق بنقص الكالسيوم وفيتامين دال الذي يحتاج الى الخروج لأشعة الشمس التي اصبح شبابنا لا يعرفونها لانهم داخل الغرف المظلمة مع اجهزة صغيرة تجوب العالم وتكسر حواجزه فتقرب البعيد دون تمييز وتظهر ماكان حقه الخفاء دون قيود.. واخيراً هاهي العيادات النفسية بدأت تستقبل ضحايا هذا الهوس والجنون، لأن اكثرنا - وللأسف - لا يعرف كيف ينظم وقته، ولا يعرف كيف يترك الاسراف والمبالغة، ولا يعرف كيف يستقبل الجديد دون انغماس، وهكذا حتى يقع ضحية نفسه، في القلق والاضطراب النفسي وعدم القدرة على النوم والخوف من المجتمع وحب العزلة، والقائمة تزيد ولا تنقص، فهل نصحو من هذا الهوس؟! وعلى دروب الخير نلتقي..