أثارت أحداث غزة الأخيرة موجة جديدة من النصائح العصماء. نفس النصائح التي يسمعها الإنسان الفلسطيني كلما اندلعت حرب مع إسرائيل. تقوم هذه النصائح على نظريتين مترابطتين: الأولى تكافؤ القوة، والأخرى الرأي العام العالمي. كل المقالات التي قرأتها حول احداث غزة ذكرت انه لم يقتل من إسرائيل سوى اربعة وقتل من الفلسطينيين أكثر من مائة، وأكدت أن هذا يدل على أن حماس والجهاد لا تقيمان للإنسان وزناً. ما الذي يمكن أن يتحقق من إطلاق صواريخ (تنك) على إسرائيل المدرعة بالقنابل النووية ودعم القوى الكبرى؟ في اوائل السبعينيات من القرن الماضي وافقت الولاياتالمتحدة على اجراء مباحثات مباشرة مع الفيتكونج (منظمة التحرير الفيتنامية). كانت امريكا قبلها تتحجج بوقف اعمال العنف للبدء بالمباحثات ولكن الفيتكونج رفضوا وقف إطلاق النار والكف عن الأعمال المسلحة فجلس الوفدان في الغرف الفاخرة في باريس والدماء والأشلاء تتناثر على ارض المعركة. أخيرا هزمت الولاياتالمتحدة (بالتضحية والدماء) وسحبت رجالها وجيشها وتركت حلفاءها من الفيتناميين الخونة دون ان تلتفت لاستغاثاتهم. على قاعدة النصائح الصحفية العربية للفلسطينيين كانت المعركة غير متكافئة والموت غير متكافئ. لم يقتل من الأمريكان سوى خمسين ألفاً وقتل من الفيتناميين ما يزيد على المليونين، اكثرهم من الاطفال والقرويين الابرياء الذين لا يعرفون عن الحرب شيئا أصلا. كانت امريكا تتعمد، كما تفعل إسرائيل اليوم، أن تلقي آلاف الاطنان من القنابل الحارقة يوميا على القرويين والأبرياء. الهدف كما هي الحال في كل الحروب تدمير معنويات الرأي العام الفيتنامي حتى يأتي من يحن قلبه وينصح بالانتظار إلى أن يتحقق تكافؤ القوة. عندما تعود إلى سجلات الصحافة والمثقفين الفيتناميين فلن تقرأ من طرح نظرية تكافؤ القتل، أو التفت إلى أضحوكة الرأي العام العالمي.الذي حدث أنه كلما زاد عدد القتلى الأبرياء زاد تضامن المثقفين في العالم مع الحرية. لم نسمع في تاريخ الاستعمار أن انتظر الشعب المقهور وأجل صراعه مع مستعمره إلى ان يحين موعد تكافؤ القوة. المطلوب من الفلسطينيين استثناء من صيرورة التاريخ. حسب نظرية الصحافة العربية على الفلسطيني أن ينتظر مئات السنين حتى يقيض الله له مائتي قنبلة نووية وأمريكا أخرى تدعمه. عندئذ سيسمح له المثقفون وكتاب الصحافة العرب بالبدء في حرب التحرير. هذا ما قرأه هؤلاء في كتب التاريخ بالتأكيد. الشعب الجزائري على سبيل المثال لم يبدأ حرب التحرير إلا بعد أن تساوت قوته مع قوة فرنسا الدولة العظمى آنذاك. الامر الذي جعل المعركة تنتهي بموت أكثر من مليون جزائري مقابل بضع آلاف من الفرنسيين. ربما يتذكر إخواننا النصائحيون إذا كانوا قد قرأوا شيئاً من صفحات التاريخ أن فرنسا لم تكن تقتل المقاتلين وإنما كانت تزيل قرى كاملة من الوجود. كانت تقوم بهذه الجريمة في انتظار أن يظهر أهل النصح الطيبون. يحثون الشعب الجزائري على انتظار تكافؤ القوة. من سوء حظ الجزائريين أن النصائحيين لم يولدوا حينها، أو كانوا اطفالا وإلا لكان الشعب الجزائري وفر مليون نسمة، واكتفى أن يكون مسجوناً مستذلا في بلاده، ومن فر سيكون مشرداً في المخيمات. من سوء حظ الافارقة الجنوبيين أنه لم يتوفر بينهم كتاب نصائحيون ولا لكانوا قد وفروا مئات الألوف من الذين قتلوا في حرب التحرير وبقوا على ارض ابائهم وأجدادهم عبيدا منبوذين كما هي الحال مع الفلسطيني. من الواضح أن الإخوة كتاب النصائح العربية لم ينسوا الرغد الذي يعيشه الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. إنسان بلا هوية وبلا نسبة وطنية وبلا قانون مدني يحكمه ولا يستطيع أن يسافر لأنه بلا جواز وإذا انتقل من قرية إلى اخرى تبعد ثلاثة كيلومترات يحتاج ساعات ليتخلص من مراكز التفتيش .. وأرض آبائه وأجداده تقضم كل يوم ويتم اعتقاله لأتفه الأسباب لأنه ملك للجيش الإسرائيلي وليس إنسانا. اما من نجا من الفلسطينيين فيعيشون بين المجاري في المخيمات في انتظار تكافؤ القوة ولكي لا يخسروا قناة فوكس الأمريكية ولسي أن أن أو الرأي العام كما يحب أن يسميهما اخواننا النصائحيون. في انتظار اوباما العاشر ليعطيهم فتات من حقهم عبر المباحات السلمية..